يتقلب العالم اليوم، بين حال وحال. نبيت على نبأ ونصحو على آخر. وتغلب على الأنباء أشدها وطءاً على النفوس: الصراعات وتداعياتها الاقتصادية والمعيشية، والكوارث الطبيعية والأوبئة.
والحرب الروسية الأوكرانية إحدى تلك النوازل، فرغم أن تصنيفها القانوني صراع بين دولتين، جارتين، إلا أن أهميتهما السياسية والاستراتجية والجغرافية، ومصالح العالم معهما، وسّعتا دائرة التأثر والتأثير، وشبكة التداخل والتدخل، حتى أحاطت بجهات العالم الأربع. وكبرت كرة الثلج المتدحرجة، حتى لم تبق دولة ومجتمع وبيت لم يتاثر معيشياً واقتصادياً وربما أمنياً، بهذه التطورات.
رهان فائض القوة
لم يكن أكثر المتشائمين والمتفائلين يتوقع ما انتهت إليه الحرب، في مرحلتها الثانية. فالذي راهن على فائض القوة الروسي أمام محدودية القدرة الأوكرانية، ومن بنى على سوابق تاريخية، بعضها قريب، كضم روسيا شبه جزيرة القرم، في رحلة عسكرية سريعة، وهي تفوق مساحة وأهمية استراتيجية تلك المناطق التي يدور حولها الصراع الأخير، وقاس على ردة فعل العالم تجاه هذه المغامرة، والمغامرات السابقة في الشيشان وجورجيا وأبخازيا وسوريا، وتوقع أن ينتهي الأمر بقضم سريع للمناطق المستهدفة، وسقوط أسرع للحكومة الأوكرانية، وقيام كيان جديد يدين بالولاء للاتحاد الروسي، كان في ميزان المنطق على حق.
ومن توقع أن لا تخرج ردة فعل الغرب، (وخاصة النسخة الثانية من إدارة "أوبامية" مهادنة)، عن باقة عقوبات اقتصادية وضغوط دبلوماسية يمكن تحملها، وتم الاستعداد المسبق لها، لم يخرج عن واقع السياسة الدولية. فقد استطاع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال العقدين الماضيين التعامل بمهارة مع مجتمع دولي يفتقد التماسك، وبمواجهة حلف غربي تسوده الخلافات، وفي عالم يفتقد القطبية المتعددة أو القيادة القوية الموحدة.
الحسابات الخاطئة
تسعة شهور مضت، منذ دخول أول جندي روسي الأراضي الأوكرانية، وإطلاق أول صاروخ، وقصف أول طائرة للمواقع والقوات الأوكرانية الأقل عدداً وعدة، ولم تزل الرؤية غامضة والرهانات متعددة والحسابات مضطربة. فما الذي جرى؟
يبدو ان حسابات الرئيس بوتين لم تسعفه هذه المرة. فقد راهن على ما راهن عليه المنخدعون بالقدرات العسكرية والاستخبارية والمالية الروسية، وعلى ضعف الموقف الأميركي، والأوروبي خاصة، أمام تنمر روسيا، ومصالحه معها واعتماده شبه الكلي على صادراتها النفطية والغازية. كما راهن على خواء الرئيس الأوكراني وحكومته، وضعف جيشه وإمكاناته الاقتصادية. ولعل هذه الحسابات لم تتجاوز في توقعها لأمد الغزو أياماً أو أسابيع، قبل أن يهرب الرئيس وأركان حكومته وجيشه، ويستسلم العسكر، ويسقط النظام، ويتحقق المرام. وهكذا يجد الغرب نفسه أمام أمر واقع، ويضطر للتعامل معه بأقل الخسائر المصلحية والأمنية.
دروس التاريخ
إلا أن الذي حدث كان أشبه بما وقعت فيه فرنسا نابليون والمانيا هتلر في روسيا، وروسيا بريجنيف في أفغانستان، وعراق صدام في الكويت، وأميركا نفسها في فيتنام وأفغانستان والعراق: الركض العجول نحو الفريسة، تحقيق الانتصارات المبكرة، الوقوع في فخ المقاومة الشرسة التي تطيل أمد الصراع، وتعطي الخصوم وقتاً كافياً لاستيعاب الصدمة والرد المضاد. تحالف الطقس والجغرافيا والحسابات السياسية. وبالنتيجة، تهاوت قدرات المعتدي، جيشه واقتصاده وتحالفاته، وضعف حماس شعبه، وانهارت معنويات جنوده. وهكذا يشتد نزيفه حتى يختار المعتدي بين العناد حتى الهزيمة، أو الاستنجاد بالوسطاء، أو الانسحاب المذل.
قلب الطاولة
واليوم، يميل الصراع الروسي الأوكراني لصالح كييف وحلفائها الغربيين. فقد تمكن داود من التصدي لجالوت، وقلب الموازين. وكأنما أراد داود الأوكراني، في المرحلة الأولى، استدراج جالوت الروسي الى مستنقعه ورماله المتحركة، مستخدماً قوة الخصم وحجمه واندفاعه ضده. ثم استهدف بعتاده الغربي الحديث أرتال الدبابات والمنظومات الصاروخية والتجمعات العسكرية.
وفي المرحلة التالية، طارد الفارين واستهدف المواقع داخل روسيا وفي المناطق التي سبق لها الاستيلاء عليها، والتي تعادل في مجموعها ربع مساحة أوكرانيا. ولعل آخر الشواهد تفجير "جسر القرم العظيم"، الذي طالما تفاخر الروس بمناعته، (كلف سبع مليارات لتسعة عشر كيلومتراً، تنقل 40 مليون مسافر سنوياً، و21 مليون طن بضائع، وافتتح عام 2018). وهو الوحيد، الذي يربط الجزيرة بالبر الروسي بأربعة مسارات للسيارات، و94 قطاراً يومياً، ويشكل همزة الوصل بين القواعد العسكرية ومخازن التموين، على الضفتين. علماً بأنه تم إصلاح الجسر جزئياً خلال أيام.
أهداف "الناتو"
واستفادت القوات الأوكرانية من التدريب والتوجيه والسلاح الغربي المتطور، إضافة الى المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي ساعدتها في إغراق أكبر وأحدث المدمرات الروسية، الطراد "موسكو"، في البحر الأسود، وتدمير أو تعطيل أحدث الدبابات الروسية T90 وبطاريات الدفاع الجويS300
وS400 وإسقاط طائرات Su 35 والطائرات المسيرة الروسية والإيرانية وصواريخ اسكندر أرض أرض.
وتحقق بذلك لحلف الناتو الهدف المنشود بتعرية السلاح الروسي، وإضعاف معنويات الجيش، وثقة الشعب في قيادته. كما تحقق للمعسكر الغربي محاصرة روسيا اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، وتوجيه الرأي العام الدولي ضدها. فمهما أسمت موسكو غزوها لأوكرانيا، بـ"عملية خاصة" أو "دعم تحرر مناطق متمردة" أو"استعادة أراضٍ روسية"، يبقى التنصيف الأممي الوحيد لها، (غزو واحتلال بلد مستقل، وتدمير منشآته العسكرية والمدنية، والتسبب في قتل وتهجير السكان، وتعطيل التجارة الدولية).
ما لم يتحقق
أما ما لم يتمكن المخطط الغربي من تنفيذه، حتى الآن، فهو إسقاط الرئيس، فلاديمير بوتين، أو هزيمة كاسحة لجيشه، أو إفلاس اقتصاده. فرغم كل العقوبات الدولية، والحصار السياسي والمالي، لا زال الرئيس ممسكاً بمفاصل الدولة، ولا زال جيشه صامداً، رغم النزيف، وقادراً على حشد مئات الآلاف (رغم الهروب الجماعي للمرشحين داخل وخارج روسيا)، وإنتاج المزيد من الأسلحة والذخائر وقطع الغيار، (رغم انقطاع المواد الأوروبية، كالشرائح والتجهيزات الإلكترونية المتقدمة). ولا زال الاقتصاد الروسي صامداً، مستفيداً من تحالفه الوثيق مع "أوبك بلاس" والصين والهند، وارتفاع أسعار النفط والغاز، وخضوع كثير من العملاء لشرط الدفع بالروبل (رغم تجميد أرصدته في البنوك الغربية ومحاصرة مبيعاته الدولية لمنتجات الطاقة).
كما لم يمنع إعلان روسيا ضم المقاطعات الأوكرانية الأربع، بعد ثماني سنوات من دعم المتمردين فيها، وبناء على انتخابات تمت تحت الاحتلال وبدون رقابة دولية. وإن تمكن المعسكر الغربي من حشد الغالبية الساحقة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضد هذا القرار.
الحل السعودي
تهديد روسيا، تلميحاً وتصريحاً، بـ"الحل النووي" و"نهاية العالم"، دليل على فشل مخططها. فمن علامات اليأس من قدرة الجيش على كسب الحرب بالوسائل التقليدية تكرار التلويح بـ"القدرات الخارقة". هكذا فعل هتلر عندما هدد بالسلاح السري، وهكذا فعل صدام بتهديده بالكيماوي والذري، وهكذا يفعل كيم جونغ أون كل يوم!
ولكن الحقيقة التي يدركها الجميع، أن الطرف الآخر لديه القدرة على الرد الساحق الماحق، ولهذا السبب تحديداً لم تقم حرب عالمية ثالثة. كما أن قرار الضغط على الزر النووي ليس في يد شخص واحد، قد يصاب بلوثة الانتحار الجماعي. ففي روسيا، كما في الولايات المتحدة وحلفائها، قيادة جماعية تسيطر على السلاح النووي، وضوابط دقيقة صارمة أهم أهدافها الردع النووي، وأهم شروطها أن يبادئ الخصم.
سيبقى التصريح والتلميح، التخويف والتهويل. وسيبقى حلف الناتو على أهبة الاستعداد للتعامل مع أي طارئ. وسيواصل الغرب الضغط العسكري والدبلوماسي، واستنزاف فائض القوة، ورفع حدة التوتر داخل القيادة الروسية، وبينها وبين المجتمع، لعله يحقق أهدافه الأساسية: هزيمة وانسحاب أو تمرد وانقلاب. وفي المقابل يتدارس العقلاء خيار التفاوض، والمخارج التي يقدمها الوسطاء، كالقيادة السعودية، التي نأت بنفسها عن الصراع، ووازنت علاقاتها بين أطرافه، ووفقت في تحقيق صفقة تبادل أسرى الحرب، وتسعى بهدوء للتوصل إلى حل سلمي يؤمن المصالح العليا والحقوق المشروعة للطرفين.
أستاذ في جامعة الفيصل
@kbatarfi