(إلى نسرين شاهين والسي مفرج وريما ساسين وناديا بدران ونوال نصر واميلي نصّار)
التحركات التي نشهدها للمطالبة بحقوق عاملات وعاملين في قطاعات مختلفة، ليست مجرد تحركات مطلبية معيشية بقدر ما هي مقاومة للانهيار: انهيار الوطن، انهيار القطاعات الاقتصادية، انهيار مقومات عيش العائلة، انهيار معنويات المواطن.
التحركات هي تعبير عن عناد، عن مكابرة اخلاقية، عن رفض للاستسلام لما راح يبدو كأنه قدر أسود. المشاركون في التحركات يعرفون تماما ما يواجهون ومن يواجهون. انهم يواجهون افلاسا ماليا للدولة انسحب على جميع قطاعات الخدمات العامة وعلى الوظيفة العامة، وعلى قطاعات إنتاجية وخدمات زراعية، في ظرف عُطّلت فيه مؤسسات المسؤولية السياسية والقضائية. انهم يواجهون منظومة مستبدة غير مبالية، قتلت وسرقت شعبها، وهي محمية من تنظيم عسكري غير رسمي، أقوى من القوى الأمنية الرسمية، التي تقف أيضا في وجه شعبها.
يقود التحركات العمالية والنقابية، رجال ونساء، لكن اللافت في زمن الانهيار، هو بروز قيادات نسائية، في قطاعات مختلفة: التعليم الرسمي، التمريض، العمل الاجتماعي، القطاع العام، الصحافة والاتصالات.
نساء يتولين قيادة هذه التحركات في قطاعات اساسية لا يمكن للمواطنين أن يتنفسوا بدونها. صحيح أن في بعض هذه القطاعات، اكثرية نسائية، من مثل قطاعات التعليم والصحة والعمل الاجتماعي، مما يجعل النساء يقدن طبيعيا التحركات في اطارها. لكن النساء يقدن التحركات أيضا في قطاعات مختلطة من مثل الصحافة والاتصالات والقطاع العام. كما اننا لم نشهد استنهاضا مماثلا ومواجهات بهذين التصميم والحدة، في القطاعات ذات الاكثرية الرجالية، التي غلبت على تحركاتها المهادنات والخضوع لمشيئة أحزاب السلطة.
في قطاع التعليم، قادت "اللجنة الفاعلة" للاساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الابتدائي، برئاسة نسرين شاهين، تحركات متواصلة دفاعا عن الأجور المتآكلة ومن اجل تثبيت المتعاقدين وتوفير التقديمات الاجتماعية بشكل لائق. وكان على اللجنة مواجهة الروابط المتخاذلة المُوجَّهة من أحزاب السلطة، وعلى رأسها رجال. ذلك لم يمنع اللجنة من متابعة نضالها بقيادة رئيستها، مع العلم ان هشاشة عمل المتعاقدين تصعّب عليهم الصمود وتعرض ديمومة عملهم لأخطار يومية. لم تكتفِ اللجنة بالدفاع عن حقوق العاملين بل تقدّم المقترحات من أجل إنقاذ التعليم الرسمي من الانهيار تحت وطأة الازمة.
في قطاع الصحافة، تقود السي مفرج، منسقة "نقابة الصحافة البديلة"، تحركات نقابتها من أجل صحافة حرة في وجه التعديات المتعاظمة على حقوق وحريات الصحافيين، الذين تستدعيهم جهات أمنية وقضائية الى التحقيق بسبب آرائهم، في مخالفة صريحة لقانون المطبوعات ولحصرية بت المخالفات الصحافية بمحكمة المطبوعات. يجري ذلك كله في ظل صمت نقابتي الصحافة والمحررين، اللتين يديرهما رجال، والأخيرة تقفل الابواب أمام انتساب صحافيين جدد مستقلين عن أحزاب السلطة، ومتمسكين بالحريات الصحافية، التي تعمل "نقابة الصحافة البديلة" على صونها وتوسيعها من خلال إقرار قانون جديد للإعلام.
في قطاع التمريض، تجهد "نقابة الممرضين والممرضات" برئاسة ريما ساسين، للحفاظ على القطاع في وجه هجرة متسارعة للعاملين. وفي محاولة جادة منها للتحول من نقابة محض مهنية الى نقابة مطلبية، تطالب النقابة بعقد جماعي مع نقابة المستشفيات وبرعاية وزارة الصحة، وتلجأ للمرة الاولى الى وسائل ضغط، في الإعلام وعلى الارض، لتحقيق مطالبها، التي تشمل الأجور الى جانب ظروف العمل. وتحاول النقابة كسر الفوقية في التعامل مع الممرضين والممرضات، في نظام هرمي يضع أصحاب المستشفيات والأطباء في أعلى الهرم، مع ما يترتب على ذلك من توزيع للصلاحيات وللمداخيل، بشكل يتناقض مع المجهود الفعلي في المستشفيات، الذي يقوم على عاتق الممرضات والممرضين. هنا أيضا لا تخلو هذه الفوقية من ملامح جندرية، حيث أن 80 % من العاملين في قطاع التمريض هن من النساء.
في قطاع العمل الاجتماعي، تنشط "نقابة الاختصاصيين الاجتماعيين"، برئاسة ناديا بدران، لحماية المهنة وحقوق العاملين والدفاع عن مصلحة المستفيدين من الرعاية الاجتماعية، وذلك من خلال تنظيم حملة لإقرار قانون مزاولة مهنة الاختصاصي الاجتماعي في مجلس النواب. كما نقابة الممرضين والممرضات، تتحول نقابة الاختصاصيين الاجتماعيين، من نقابة محض مهنية، الى نقابة مطلبية.
يترافق هذا التحول مع تنظيم قاعدي في مختلف المناطق، من خلال تأهيل مندوبين قادرين على التواصل مع الاختصاصيين الاجتماعيين من جهة، وممارسة مهام التعبئة والاستقطاب من جهة ثانية. تواجه النقابة في مسارها ممانعة من بعض النواب لإقرار القانون كما تطرحه النقابة، محاولين توسيع مفهوم الاختصاصي الاجتماعي ليضم متخرجين من كليات علم النفس وعلم الاجتماع مثلا، وهي اختصاصات تفتقر الى الاساسيات والى المهارات الميدانية لمهنة الاختصاصي الاجتماعي، مما يعرض أصحاب الاحتياجات للخدمة الاجتماعية لأخطار نفسية وصحية واجتماعية.
في القطاع العام، تقف "رابطة موظفي القطاع العام" برئاسة نوال نصر، في وجه الانخفاض المضطرد لأجور الموظفين ولتقديماتهم الاجتماعية، خاصة في مجالي الصحة والتقاعد. تحاول النقابة التوفيق بصعوبة بين مصلحة الموظفين ومصلحة المواطنين الذين يفتقرون إلى خدمات الدولة في حالات الاضراب. كما انها تعمل للتوفيق، بصعوبة ايضا، بين كفاءة الموظفين، ودوامهم ومداخيلهم، مداواةً لنهج التوظيف الزبائني الذي انتهجته السلطة. ولا شك ان النقابة تستبق في تحركاتها مشاريع إصلاح القطاع العام التي تصب جميعها في تقليص عدد العاملين.
في قطاع الاتصالات، الذي شهد أخيرا صراعا حادا بين وزير الاتصالات و"نقابة موظفي اوجيرو" برئاسة اميلي نصّار، تتركز مطالب النقابة على حماية أجور الموظفين من التدهور بفعل انخفاض سعر صرف العملة الوطنية. هنا أيضا القطاع مهدد، ومعه اشتغال الأعمال جميعها، وعلاقتها مع الخارج، بفعل ضعف التمويل من جهة، وتربص القطاع الخاص من جهة ثانية، والهادف الى خصخصة القطاع، بالتواطؤ على الارجح مع أركان السلطة الحالية. لم يكن سهلا على النقابة الاستمرار في الإضراب، ومن ثم تعليقه، في ظل هذه الأخطار، لا سيما مع رفض وزير الاتصالات التفاوض تحت الضغط.
تقود النساء هذه التحركات في وجه انهيار الوطن والقطاعات الاقتصادية وارزاق العائلات واعصاب المواطنين. يقدن هذه التحركات بكل شجاعة وتصميم وباللحم الحي، هن اللواتي تعودن ان ينجبن الحياة باللحم الحي وبعد مخاض مؤلم وعسير.