مارلين سعاده
"يوميّات امرأة انتصرت على السرطان" للدكتور إبراهيم شلبي كتابٌ صدر حديثًا عن دار "غراب للنشر والتوزيع" (ط 1 - القاهرة 2022)، فجمع بين دفّتيه، إضافة إلى الإهداء والتقديم والمقدّمة، اثنتين وثلاثين قصّة موجزة، لكنّها عميقة ومؤثّرة، لاثنتين وثلاثين امرأة كتبت كلّ واحدة منهنّ خبرتها، وكيفيّة مواجهتها مرضَ السرطان.
نشعر في كلّ الفصول بأنّ القلم الذي خطّ الأحداث هو نفسه؛ الأسلوب لم يتغيّر، كما لو أنّ الراوي واحد فيها جميعًا، وإن تبدّلت أحداثها، واختلفت تفاصيلها وظروفها؛ وحقيقة الأمر أنّ من نقل لنا قصّة كلّ واحدة من أولئك السيدات اللواتي واجهن مصائرهنّ مع مرض السرطان بجرأة وإيمان وصبر وتحدٍّ، هو نفسه، الطبيب المحبّ، الذي تعكس كلّ كتاباته، الأدبيّة منها والعلميّة، حسّه الإنساني الراقي، وخلقه الرفيع، وإيمانه بقدرات الإنسان، إضافة إلى هذه الموهبة الظاهرة لديه في رسم أطُر واضحة ومحدّدة للحدث، وإبراز التفاصيل اللّازمة لإيصال الصورة، وتثبيت ألوانها، لكي تصل الرسالة إلى الهدف مباشرة، مؤدّية مهمّتها على أكمل وجه.
"يوميّات امرأة انتصرت على السرطان" صفحاتٌ، يضعنا كلّ فصل منها أمام باب جديد، وأسرة جديدة، تُعرّفنا تفاصيل يوميّة قد تبدو للوهلة الأولى عاديّة، لكنّها حقيقيّة جدًّا، وتنقل الصّورة كما هي من دون "رتوش"، فنرى الأشخاص يتحرّكون أمامنا ويتصرّفون بطبيعيّة، من دون تكلّف، حتّى أننا نكاد نتعرّفهم أو مَن يشبههم تمامًا بين أقاربنا ربّما، أو بين معارفنا وجيراننا، ونفاجأ باستخلاص الحكمة من حدث عاديّ، أو ممّا قد يبدو عاديًّا، إلّا أنّ عمق الألم وقوّة الرغبة في الانتصار عليه، يحوّله إلى حدث أكثر من عاديّ، مستنبطًا منه علاجًا حقيقيًّا لما اعتدنا على تجنّب مجرّد ذكر اسمه، لكونه ينطوي على نتائج مدمّرة لحياة أيّ إنسان يصيبه.
السرطان! هذا المرض الخبيث، الذي يدمّر الإنسان نفسيًّا قبل أن يدمّر جسده ويقضي عليه؛ استطاع إبراهيم شلبي الإنسان والطبيب أن يحوّل مرارته إلى عذوبة، وأن يُعيد بناء ما يهدّمه هذا المرض، مستخدمًا العقل والعاطفة معًا، فينبّه بهما وعي المريض لأهمّية القدرات التي يملكها، والتي تمكّنه من السيطرة على خوفه والتغلّب على مرضه.
اثنتان وثلاثون قصّة مثقلة بالمخاوف والصراعات والتساؤلات والشكوك والآلام... ولكنّها أيضًا مضمّخة بالأمل، والرجاء،والإيمان، والقوّة، تهدف إلى تعزيز الثقة بقدرة المريض على التغلّب على كلّ ما يمرّ به، وبناء جسر متين من الحجارة نفسها التي تهدّمت في جسده، ليَعبر من خلاله فوق وادي ظلّ الموت، منتصرًا على ما ولّده لديه واقعه الجديد من هواجس ومخاوف.
نقع في "الشهادات" على أحداث يوميّة ملازمة لكلّ أسرة في كلّ بيت، ولكنّ ما يميّزها هو هذا الاهتمام البالغ بالمريض، واهتمام المريض نفسه بكلّ تفصيل يمرّ به. نقع على الزوج المتألّم بصمت، المحبّ والمتفهّم؛ كما نقع على المريضة القلقة على مصير أولادها، فهل يصيب ابنتها ما أصابها؟ وهل تعيش ما بقي لها من الحياة في الخوف ممّا يمكن أن يحصل، وما يمكن ألّا يحصل؟!
يستخدم د. شلبي هذه اليوميّات ليبثّ الأمل والفرح في قلب كلّ فرد في الأسرة، فينصح الزوج ويوجّهه، ويخفّف عن الزوجة ويهديها سبلًا جديدة للتغلّب على خوفها، وكأنّي به لم يألُ جهدًا في تدوين كلّ كلمة تشجيع حظيت بها مريضة من قريب أو صديق أو طبيب أو كتاب قرأته، وأخبرته عنها؛ كذلك دوّن كلّ بارقة أمل نجحَ د. شلبي بحسّه الإنسانيّ الراقي في توليد شرارتها وسط الدموع، لتعزيز ثقة المريضة بنفسها، حيث تسترجع حبّها للحياة، محطّمة قيود المرض، ومتغلّبة عليه.
ينقل لنا صورة عن الزوج الذي تُحوِّل كلماته المعزّية المُحبّة الحزنَ إلى فرح:
"حبّي لكِ لا يتجزّأ..
ولا ينحصر في جسد مكوّن من مجموعة أعضاء،
إذا فقدتِ عضوًا منها قلّ حبّي بمقدار هذا الجزء المفقود.
أحبّك ككيانٍ كامل متكامل." (ص 24)
من جهة ثانية، نجده يُلقي الضوء على ضرورة مساندة الزوجة للزوج، لما يمرّ به من ضيق خلال مرحلة مرض زوجته، وأهمّية وقوفها إلى جانبه كيلا يتألّم بصمت، وفي ذلك سلامة كليهما. نجد مثالًا في قصّة "الزوج أيضًا"، التي ختمها بإعلان الزوجة الصارخ: "لن أسمح أن تجفّ دموعه وحدها على خدّيه بدون أن أتلقّاها وأجفّفها بيدي الحانية". (ص 81)
نلمس في الفصل المعنون "المايوه" (ص 35) أهمّيّة الحكم على الأمور بعقلنا لا بعاطفتنا، وتقبّل المرض كأيّ شيء آخر في الحياة، إذ قد يعاني غيرنا من أمور أخرى، كزيادة الوزن أو تشوّه من حرق... مع ذلك نجده يتغلّب عليها جميعًا ولا يدعها عثرة في طريق تقدّمه وعيشه الحياة بملئها... وبالتالي، لا شيء يمنع مريض السرطان من أن يفكّر ويعيش مثل سواه من البشر.
في "هديّة حفيدتي" تباغتنا الدمعة والحسرة ونحن نستمع إلى أمّ ترثي نفسها أمام حفيدتها المستقبليّة؛ نشعر بالأسى وبظلم الحياة، فهل هي ظالمة حقًّا أم أنّنا نبالغ أحيانًا بتصوّرها كذلك؟! وهو أمر طبيعيّ، فحين أحصت إحدى المريضات أيّام الحزن وأيّام الفرح أدركت أنّ أيّام الحزن كانت أقلّ بكثير من أيّام الفرح، ولكنّنا نشعر بثقلها فتكاد تغرقنا.
ينتقل بنا الطبيب الأديب من بيت إلى بيت، يقرع الأبواب التي قرعها المرض قبل وصوله، يفتح لنا الطريق لنرى ما يجري خلفها، حيث نتعرّف مختلف طرق التفكير لدى كلّ مريضة، وكيفيّة مواجهتها للمرض من الزاوية التي تعنيها وتجذبها؛ فثمّة من تحاربه انطلاقًا ممّا سبق وشاهدته في فيلم من الأفلام (Fantastic Voyage أو الرحلة العجيبة)، أو ممّا سمعته في أغنية (أعطني الناي وغنِّ لجبران)... وثمّة من قد تضعها "الظروف تحت رعاية طبيب كثير المشاغل أو قليل الكلام، لا يجد الوقت أو الصبر للاستماع إليك أو الإجابة على أسئلتك"... هنا يسدي الدكتور شلبي المريضةَ النصح، ويزوّدها، من خلال القصة، بالأسئلة الضروريّة التي ينبغي أن تطرحها.
نلمس في الأقاصيص أهمّيّة حضور المرأة الدافئ، وضرورة المحافظة على وجودها المنتج في البيت، لما فيه مصلحتها ومصلحة أسرتها، بالإضافة إلى إشادته بدور الرياضة التي تنعكس إيجابيًّا على نفسيّة المريضة.
"يوميّات امرأة انتصرت على السرطان" كتاب لكلّ امرأة، ولكلّ زوج، بل لكلّ فرد في الأسرة، يهدي السبيل إلى كيفيّة التعامل مع كلّ ما نواجهه في الحياة من صعاب أو مفاجآت، ويشدّد فينا العزيمة وروح النضال للتغلّب على ما يُلمُّ بنا ويُتعبُ نفسيّتنا.
أجادَ د. إبراهيم شلبي في اختيار الحالات، فكانت كلّ واحدة منها بمثابة ضوء جديد يُنير طريق كلّ مريض ليرشدَه السبيلَ الصحيح للنجاة والاستمرار بالحياة بفرح رغم كلّ الظروف.