غسان صليبي
في ظاهرة جماعية نادرة، انتقد اللبنانيون انفسهم عندما قارنوا سلوكهم بسلوك السري لانكيين، فهؤلاء ثاروا على رؤسائهم ودخلوا قصورهم وأحرقوها، فيما اللبنانيون يتحركون بخجل ولا يقتربون من القصور الرئاسية، وإذا اقتربوا توقفوا خوفاً من قمع القوى العسكرية الرسمية وغير الرسمية، أو احتراماً للمواقع الطائفية والمذهبية، أو خضوعاً لرمزية الأب- الزعيم.
منذ سنين طويلة يتشاوف الشعب اللبناني على الشعب السري لانكي، الذي عمل ولا يزال يعمل قسم منه تحت سلطته، في بيوته ومؤسساته الاقتصادية.
الذين يعتقدون أن الفرق بين لبنان وسري لانكا ان في هذه الأخيرة شعبا واحدا فيما نحن طوائف ومذاهب، عليهم أن يعرفوا أن الشعب هناك منقسم أيضا إلى طوائف واديان: بوذيون سبعون في المئة، هندوس اثنا عشر في المئة، مسلمون عشرة في المئة، ومسيحيون سبعة في المئة. إلى انقسامات عرقية ولغوية. كما عرِفَت البلاد حرباً أهلية طويلة لكن عرقية، توقفت منذ زمن ليس ببعيد.
أشار تقرير نشرته "النهار"، الى ملامح الوضع الاقتصادي والمعيشي: "تحوّلت سري لانكا دولة مدينة بشكل كبير للصين التي جرى التعاقد معها على ديون ضخمة لتمويل مشاريع بنية تحتية كبرى حامت حولها شبهات الفساد. عانى قطاع السياحة الذي يعدّ حيوياً لاقتصاد الجزيرة، تداعيات الهجمات الجهادية في نيسان 2019 على الكنائس والفنادق (279 قتيلاً بينهم 45 أجنبياً)، ثم جائحة كوفيد 19. كما أدّت أكبر تخفيضات ضريبية في تاريخ الجزيرة، منحها غوتابايا عند تولّيه الرئاسة، إلى إفراغ خزائن الدولة. ووجدت سري لانكا نفسها بدون عملات أجنبية كافية لاستيراد ما تحتاج اليه من طعام ودواء ووقود. على الرغم من المساعدات من الهند ودول أخرى في نيسان 2022، تخلّفت الدولة عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، وتسعى إلى الحصول على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي. يعيش السري لانكيون منذ أشهر في ظل نقص الغذاء والدواء وانقطاع التيار الكهربائي، بسبب نقص الوقود الذي يحدّ أيضاً من التنقّل. يجعل التضخّم المتسارع (55 في المئة في حزيران وحده) من المتعذّر الحصول على الأشياء القليلة التي لا يزال العثور عليها ممكنا".
لكأن التقرير المشار إليه يتكلم عن لبنان، مع بعض التعديل في الأسماء والأرقام. أليس كذلك؟
في مجال آخر، يقرب أيضا الوضع اللبناني من الوضع السري لانكي، إذ عرفت الجزيرة استعمارا واحتلالات متعاقبة، وحصلت على استقلالها سنة ١٩٤٨، وعلى حدودها دولة كبرى هي الهند تدخلت في الحرب الاهلية من خلال نشر "القوة الهندية لحفظ السلام"، بما يذكّرنا بقوات الردع العربية وفي طليعتها القوات السورية. وكانت اسباب التدخل الهندي تشبه في بعضها اسباب التدخل السوري عندنا: منع القوى الخارجية الأخرى من إنشاء قواعد في سري لانكا، والحؤول دون تأثير الحرب الاهلية على وحدة الهند ونظامها.
لا أتوخى في هذا المقال التوسع في مقارنة أوضاع وظروف الشعبين اللبناني والسري لانكي، من أجل محاولة تفسير ما يسعى اللبنانيون إلى تفسيره، اي لماذا دخل الشعب هناك القصور فيما الشعب اللبناني لا يزال يتجادل حول القشور. فالمسألة تحتاج الى مقارنة النظامين السياسي والاقتصادي في كلا البلدين ومدى تسهيلهما او إعاقتهما قيام ثورة. يتطلب ذلك أيضا مقارنة المحيط الاقليمي للبلدين، وخصوصا أنه لا يمكن فهم واقع لبنان بمعزل عن الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين الرابض على حدوده والمهدد لسلامته، ولا بمعزل عن إنخراط لبنان في المحور الايراني من خلال "حزب الله"، وهيمنته على القرار السياسي فيه. كذلك من الضروري مقارنة أحوال القوى المعارضة في البلدين.
مهما كانت نتيجة المقارنة، من المجحف إغفال واقع أن اللبنانيين ثاروا أيضا على أوضاعهم، رغم أنهم لم يستطيعوا استكمال ثورتهم بإطاحة السلطة، التي يتأكد يوما بعد يوم أن لا حلول بوجودها. لقد ناقشت بإسهاب هذا العجز في كتابي "إنتفاضة 17 تشرين" الصادر عن "دار نلسن" سنة 2020.
ما يهمني، هو التوقف عند هذه الصدمة النفسية الإيجابية التي يمكن ان تشكلها الثورة السري لانكية في الوعي اللبناني، فليس سهلا على اللبناني أن يجد نفسه اقل تحسساً لكرامته وأكثر خضوعاً للظلم، من الشعب السري لانكي الذي طالما نظر إليه نظرة فوقية: فهو فقير واسود البشرة وبوذي وقصير القامة، يعمل عنده ويمارس مهنا يأبى أن يمارسها بنفسه.
ربما حان الوقت بسبب هذه "الصدمة السري لانكية"، أن يغيّر اللبناني نظرته الى الفقر ولون البشرة والدين وطول القامة والموقع في العمل ونوع المهنة.
ربما يحتاج اللبنانيون إلى جلسة علاج نفسي يديرها بنات وأبناء الجالية السري لانكية الذين يعملون في لبنان، والذين اختبروا ظلم بعض اللبنانيين لهم. لعل السري لانكيين يكشفون للّبنانيين في هذه الجلسة، نزعة الظلم التي تستوطنهم، بدوافعها الطائفية والعنصرية والطبقية، فيحررونهم منها، ليصبح اللبنانيون بعد ذلك قادرين على رفض الظلم في مجتمعهم بعد أن يرفضوه في أنفسهم، ويثوروا على الظالمين مثل السري لانكيين متوجهين مباشرة إلى قصورهم.