أعلن المغرد الشهير توقفه عن مواجهة الخصوم في الشهر الفضيل. ومثله فعل كثير من المغردين على منصة تويتر تقديراً لروحانية رمضان وروح التسامح والترفع عناللغط فيه. استبشرت خيراً، وأثنيت على من أعرفهم منهم على قرارهم الحصول على استراحة محارب. ودعوت الله أن يدوم صيامهم عن الشقاق والفتن، وتتحول الهدنة الموقتة الى سلام دائم.
عرب الشمال
هذا المغرد وغيره من المتصدين لهجمات المناوئين لبلادهم والمتصيدين في المياه العكرة، جاءوا الى المشهد بعد غياب استمر عقوداً. فمنذ الثورات العربية القومية والاشتراكية واليسارية في القرن الماضي، حكم الساحات الإعلامية والثقافية والسياسية نجوم من المعسكر الرافض لكل ما ثار عليه العسكر، من أنظمة ملكية وقبلية ودينية، وصفوها بالماضوية والرجعية والتبعية للمستعمر والقوى الغربية والصهيونية العالمية.
ساهمت في سيطرة "عرب الشمال" (شمال الجزيرة العربية وشمال افريقيا) خلفيتهم الثقافية والعلمية والتعليمية بعد قرون من الاستعمار لبلدانهم، والهجرة الى مدنيات الشرق والغرب، مقابل انعزال أهل الجزيرة وتأخر مواكبتهم لركب المدنية وقطار الحداثة وخطط التنمية، وتوافر القنوات والمنابر الإعلامية الصادحة والعابرة للحدود، من صحف وكتب وراديو وتلفزيون، مقابل بدايات متحفظة وخافتة للإعلام "الجزيري"، مع اعتماد على الكفاءات العربية "الشمالية" وصل الى حد الهيمنة في بعض البلدان الأكثر انفتاحاً وتحرراً وتنوعاً فكرياً، كالكويت.
عواصم التنوير
وقتها كانت مراكز التنوير تكاد تكون حصراً على بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة وتونس والخرطوم. وكان أبناء الجزيرة والخليج وبناتهم يبتعثون للدراسة والتدرب فيها، وكان مثقفوهم وأدباؤهم وفنانوهم يبحثون عن منصات الانطلاق والحضور في ساحاتها ومسارحها وقنواتها، وكانت كتبهم واسطواناتهم، بحوثهم ودراساتهم، لا تجد مطابع ودور نشر وبحث وفنون إلا في هذه العواصم.
لذلك كان من الطبيعي أن يشعر أصحاب الفضل بفضلهم، وأصحاب المجد والتفوق بمكانتهم وينظروا الى من يطرق أبوابهم طلباً للعلم والتعلم والشهرة والحضور بشيء من الفوقية، حتى ولو كانوا أصحاب مال وجاه. وكان من الطبيعي، أن يشعر من تعلم وتطور واغتنى واستغنى بمرارة هذه النظرة تجاهه، وبتلهف، الى يوم يتغلب فيه على هذا الأحساس ويغير فيه من هذه الصورة ويقف فيه على قدم المساواة النخبوية مع من سبقه الى مدارج المجد.
"العيال كبرت"
كبر الصغير، وتعلم الجاهل، واغتنى الفقير، وتطور البادئ حتى سابق السابقين. وخرج جيل بعد جيل من تحت عباءة الماضي الى رحاب الحاضر وآفاق المستقبل، حتى وصلنا الى جيل مر بتجربة عرب القرن الماضي نفسها، عولمةً وانجازاً وحضوراً. وامتلك هؤلاء أدوات تعلم وإعلام أكثر حداثة وانتشاراً وقوة، وبنوا إمبراطوريات من صحافة وفضائيات وإعلام جديد، كمجموعة "ام بي سي"، المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام، مجموعة "روتانا"، مجموعة "إقرأ"، شبكة "الجزيرة"، شبكة "سكاي نيوز"، وغيرها.
وأبدع شعراء الجزيرة وكتابها ومثقفوها وفنانوها في كل المجالات والتخصصات. ونظموا المنتديات والمؤتمرات ومعارض الكتب والفنون والاحتفالات. كما انتشر الجمهور الخليجي وهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات عالمية كـ"تويتر وسناب شات وانستغرام". ولم يعد فقهاؤهم وعوامهم يشعرون بالحاجة الى الاعتراف بهم ممن سبقهم أو استعارة الأفكار منهم أو الاعتماد عليهم.
النظرة الاستعلائية
وفي المقابل، تراجع حضور ناقديهم وتألقهم، بعد تفكك إمبراطورياتهم الإعلامية، ورحيل الكواكب الأدبية والفنية، وانشغال بلدانهم بالصراعات والأزمات والثورات، وضعف محرك الاقتصاد بنفاد الوقود. ومع ذلك كله، ما زالت عقدة التفوق والتألق والماضي العتيد تشكل نظرتهم الى عرب الجزيرة، والوصف لهم، من الغنى المستحدث، الى البداوة المتأصلة، (وهي حقائق يفخر بها أصحابها)، مع تجاهل لأي إنجاز حققه أعراب الصحراء، واتهامات قديمة - جديدة، بالتبعية الأجنبية والتصهين والسطحية.
الخطورة هنا، ارتباط هذه النظرة الاستعلائية بأصحاب القضايا العربية الأزلية، من فلسطين والمقاومة، الى التجديد والتنوير، وعدم انحصار ذلك في العقلية النخبوية، بعد نجاح الزعامات الشعبوية في نشرها بين العوام. وهكذا شهدنا حملات عدائية، مستكبرة، مستفزة ضد أهل الجزيرة العربية، وتدخلات تثير الانقسامات، وتشغل الخلافات وتنبت الطائفية في شؤونهم الداخلية، وشماتة بمصابهم، وتحالفاً مع أعدائهم، واتهاماً لهم بالتسبب في انتكاسة عربية.
النتيجة الحتمية
رد الفعل، بخاصة عند أجيالنا الجديدة التي لم تشهد مظالم الاستعمار وحركات التحرر، ولم تعايش بدايات القضايا الكبرى، ولم تعش أحلام الوحدة العربية، أو تصدق شعارات القومية والبعثية والاشتراكية، هو التخلي عنها وعن أصحابها، والتفرغ لبناء الذات وتحقيق أهداف الخطط التنموية، والضن بالدعم لمن بدت عداوتهم وكراهيتهم. وساد مفهوم الوطن أولاً ... وأخيراً.
وعلى الصعيد الإعلامي، تحفظ التقليدي والرسمي، وتحرر الخاص والشخصي من قيود المراعاة وجبر الخواطر والترفع عن المهاترات. فقد أصبح كل صاحب رأي صاحب منصة، وظهر المؤثرون، وبعضهم يتابعه الملايين، ولم تعد القنوات الفضائية والصحف المطبوعة هي المصدر الحصري للخبر والرأي. فمع انتشار الهواتف الذكية، وتوافر المعلومات الرقمية، لم يعد على الفكر رقابة ولا على التعبير قيود.
عود على بدء
وكأنما هي مؤامرة كونية، فما فشلت في تحقيقه مخططات المستعمر الجديد، نجح فيه الإعلام الجديد. وبأيدينا "لا بيد عمرو" مزقنا المقدس، وزرعنا الكراهية، وشققنا الصفوف.
بالمناسبة، عاد المغرد الشهير بعد هدنة لم تطل أياماً الى ميدان المعركة، وعذره أن الطرف الآخر خرقها أولاً، رغم أنه الأجدر به كـ"إسلامي" أن يلتزم. أما الطرف الثاني فمبرره أن الجهاد في رمضان أبرك. وردد الجميع، اللهم إني صائم!