الدكتور فادي أبو مراد
تجرّأ الفرنسيون على وضع مقياس لتحديد معاينة الطبيب… فسادت مقولة احتساب المعاينة الطبيّة على أنّها تساوي ٥ مرّات سعر الطبق اليوميّ… (على سبيل المثال لا الحصر: إذا كان معدّل سعر الطبق اليوميّ ١٠ يورو فبكون بدل المعاينة الطبيّة ٥٠ يورو)…
في لبنان، سادت مقولة الشرفيّة "Honorarium"… أي أنت تدفع أقلّه سعر السّلعة، أو سعر ما تشتريه…في ظلّ هذا المنطق، جاءت مثلاً المعاينة الطبيّة على حساب الضمان الاجتماعيّ بـ٢٢٥٠٠ ليرة لبنانية… بقيت هذه التسعيرة سائدة لغاية الـ٢٠١٢، حين تمّ رفعها لـ٣٧٥٠٠ ليرة لبنانية، أي ما يعادل ٢٥$ أميركيّاً (بحسب السعر الرسميّ للدولار)، وهي ما زالت سارية حتى اليوم…
إذا أردنا اتّباع هذا المنطق فعلينا المناداة بتسعيرة تقارب الـ٧٠٠ ألف ليرة لبنانيّة، تتحرّك تلقائيّا مع تبدّلات سعر صرف الدولار. "شرفيّة" قاتلة، ناتجة من فكر عقيم، ولغة أبويّة بزرجمهريّة متعالية ومتسلّطة…كلّ يقوم بتسعير ما عنده بالدولار، بكلّ فجور، وعيناه تأخذان شكلاً دائريًا مستفزّاً… بدءاً من محطّة البنزين، إلى الخبز والكعك ومنقوشة الزعتر… إلى الخضراوات على أنواعها… إلى كلّ ما هو مرتبط بتصليح السيّارة، من قطع غيار، إلى أجور اليد العاملة… بائع الدواليب واللّحوم… بائع الشمس أيّ المنتجعات البحريّة… بائع الدواء يفعل كذلك، لا بل يخفي دواءه، إذا لم يتمكّن من فرض سعر يناسبه… بائع الأوكسجين… نوادي الرياضة التي تعمل على صحّتك البدنيّة… بات كلّ شيء بدولار السّوق، إلاّ الدولار المُدَّخر للأيام السوداء، هذا مُنكّل به، وهو بيد من قبض عليه وقرّر رميه لنا فتاتاً… كلٌ يتحدّث عن تكلفة بضائعه … هل سأل المجتمع نفسه ما هي تكلفة دراسة طبيب؟ وما هي تكلفة مستلزماته من كتب ومجلات طبيّة وغيرها؟ … هل في الـ٣٧٥٠٠ ل ل "شرفيّة"؟ عن أيّ شرف نتحدّث؟ هل تشتري لك "الشرفيّة" أعلاه قنينة سبيرتو؟
كلّ ينادي بدولاره، وعيناه تنطحان السّحاب… وحده الطبيب اللبنانيّ الذي أراد الالتحام بشعبه وعدم الرحيل عليه التسعير بالليرة اللبنانية وحده… هذا وحده تكون عيناه أرضاً عندما تهمّ لتقول له "ما معي غيرن حكيم!"… هل تقول هذا الكلام عند كلّ الباعة… ما جبروت هذا الطبيب اللبناني؟ … وكم عليه أن يصبر… أن يصبر على المستغلّين المتّصلين، والذين يستسهلون الاستشارة عبر الواتساب، والمناداة في الشوارع، وباحات المعابد… بطرق تفرّدوا بها لنيل الجواب، وشفاء غليلهم، والنوم بهناء، بعد الاطمئنان، من دون المساهمة بدفع الواجب… وهم الذين اعتادوا النوم بعد سكرة كَيفٍ مُكلفة الأثمان…وحده فقير الحال مَن يصرّ على المساهمة حتى لو كانت خجولة… والأغلبية الساحقة تتشاطر وتكذب!
في تحليل لائحة أسعار طبق يوميّ وصلتني اليوم… لا شكّ في أنّها تُقدّم في مطاعم مقبولة، وليست مصنّفة فاخرة بامتياز… إذا أخذنا - على سبيل المثال - طبق المغربية، فسنرى أنّ سعره يُقارب الـ٤٠٠ ألف ليرة لبنانيّة؛ وإذا طبّقنا المقياس الفرنسيّ، فستكون المعاينة الطبيّة بمليوني ليرة لبنانيّة… سوف أسلّم جدلاً بأنّنا قد نجده أقلّ تكلفة في مطاعم أخرى… فليكن ٢٠٠ بدل ٤٠٠ ألف… هذا يعني أنّ المعاينة الطبيّة لا يمكن أن تكون بأقلّ من مليون ليرة لبنانية… لن نحتسب وجبات "الأوزي" و"الصيادية"، فقد لا يستحقّهم الطبيب (حتى لا يُتّهم بالجشع عند ارتفاع تكلفة معاينته إلى مليوني أو ثلاثة ملايين ليرة لبنانيّة)… أكتب هذه الكلمات على وقع صفيحة بنزين قاربت ٦٥٠ ألفاً…
مشاهد ومقاييس عديدة أضعها للتأمّل… ليبقى النُبُل… وليسود المنطق وسط هذا الاختلال الكبير… ولا نساهم نحن أيضاً في ضرب الناس بكراماتهم …للطبيب كرامة أيضاً إذا كان همّنا الناس…! فهو إنسان، وكرامته أسمى من الملأ… فيما هو مدعوّ بأن ينطح السّحاب، فقط بتكامله وتواضعه…
نعم الطبّ ليس تجارة، وهذا شرف مهنتنا. ليس علينا نحن تسعير المعاينة الطبيّة… نحن نبذل جهداً ووقتاً، نتحمّل مسؤوليّة التشخيص والعلاج والمرافقة، ويلزمنا كُتب ومحروقات للتنفّل، ولدينا عائلات في عهدتنا… على هذا المجتمع وممثليه، من هيئات وساسة، أن يفكّروا مليّاً، وبعمق وعدالة، بكم تكون ساعة عمل يقوم بها طبيب حامل لشهادات عليا، وتراكم سنوات دراسة تفوق الـ١٥ سنة… فلنقلع عن الشرفيّات والتحلّق في السّاحات… نهجًا فكريًا خلاّقًا يجب اعتماده لكي نتحرّر بالحقّ!