يكثر الحديث عن أنّ الحرب على أوكرانيا ستغيّر الكثير من معالم السياسات العالميّة، لدرجة أنّ البعض توقّع انبثاق نظام دوليّ جديد وتفكُّك العولمة ونهاية هيمنة أميركا. نحو منتصف القرن الماضي، كتب غاستون بوتول عن الحرب كظاهرة سوسيولوجيّة، وتُرجم كتابه إلى العربيّة تحت عنوان "هذه هي الحرب".
اقترح بوتول لفظة "Polémologie" التي أخذها عن اليونانيّة لتعريف الحرب كظاهرة اجتماعيّة، لأنّها مؤلفة من "polemos" وتعني الحرب و"logos". برأيه، إنّ "الحرب أروع الظاهرات الاجتماعيّة بلا خلاف. فهي التي تضع الحدود التي تدلّ على كل المنعطفات الكبرى للحوادث شئنا ذلك أم لا. وبالحرب كاد يبدأ تاريخ كلّ الحضارات الحديثة. وإذا كان علم الاجتماع، كما قال دوركهايم، "التاريخ مفهوماً على صورة ما" استطعنا أن نقول إنّ الحرب هي التي ولّدت التاريخ. فالتاريخ بدأ في الواقع بكونه تاريخ المعارك المسلّحة من دون غيرها، ولعلّه سيبقى دوماً كذلك".
جميع الأديان تمجّد الحرب عند مختلف الشعوب، ناهيك عن التنظيرات المتعلّقة بضرورتها.
الحرب هي أيضاً العامل الأساسي الذي يودّي دوراً كبيراً في التحوّل الاجتماعيّ. فهي تقطع سبيل العزلة فتنتهي آجلاً أم عاجلاً بإرغام أكثر الدول انغلاقاً على الانفتاح، كما حصل مع الصين واليابان في القرن الماضي. وبحسبه، ربما كانت الشكل الأقوى والأنجح في تحاور الحضارات وقطع عزلتها.
ويُنهي تعليقه بكلمة واحدة: "إنّها صورة من صور الانتقال المعجَّل".
وإذا استعدنا التاريخ الأوروبيّ، نجد أنّ الحرب العالميّة الثانيّة هي التي ساهمت في تغيير وضع المرأة الجذري وفي خروجها من البيت إلى ميدان العمل بسبب انشغال الرجل في الحرب. وتجد إليزابيت بادنتر أنّ هذه الحرب هي في أساس استعادة التساؤل حول القيم التقليدية التي كانت سائدة في أوروبا وفي أصل ما أسمته قسمة العالم الاقتصادي بين النساء والرجال. وهذا كان من أهم التغيّرات التي حصلت في القرن العشرين وأدّت، مع اختراع حبوب منع الحمل، إلى الثورة الجنسيّة التي ترتّب عليها سيطرة النساء على أجسادهنّ وتحكّمهنّ بالولادات، الأمر الذي حرّرهن فعلياً وجعلهنّ يتقاسمن العالم مع الرجال.
والحرب كما يراها بوتول تساهم في انتقال الثروات، إفقار فئات والصعود بأخرى، وإحداث أثر كبير على السكان، ومنها زيادة الوفيات وخاصة الفتيان. إن للحرب دور ديموغرافيّ أكيد.
المظهر الآخر للحرب، تشبيه الحرب بالعيد، فبماذا تشبّه الحرب العيد؟
العيد أولاً هو الاجتماع المادّي لأفراد الجماعة، وهو شعيرة تنفق فيها الأموال أو تبعزق، فالجماعة تستهلك الخيرات التي كانت قد جمعتها وتتلفها في الإثارة والهيجان. وهذا كلّه يمكن أن يكون مصدر إلهاء، فتنتزع الفرد من محيطه المعتاد وتضعه في محيط مادي ونفسي غريب، فهي قبل كل شيء مصدر انفعالات لا يضاهى.
وهي كالعيد الذي يولد شيئاً من عدم الحساسية الجسديّة، فيقوى تحمل الأفراد وحينئذٍ يستسلمون لنوبات غير مألوفة تصل إلى أن تجعلهم يقبلون ضربات أو أنواعاً من الألم الجسدي. وهذا يعني أن الأفراد يتحملون الكثير من الصعوبات خلال الحرب، لكن ماذا عن وضعهم عند انتهائها؟ فالحرب ساهمت بتغيير الظروف والشروط الطبيعية لمعيشة الأسر، ما يسبب التوتر و"السترس" والانهيارات. ولذك آثار نفسية عميقة، يمكن الإشارة بسرعة إلى ازدياد التوترات وتعميقها داخل الأسر وإلى ازدياد العدوانية والمشاكل النفسية بشكل عام. في لبنان نعاني منها حتى الآن.
الظاهرة الأخرى المهمّة التي تتسبّب فيها الأعياد والحروب، هدم بعض القواعد الأخلاقية ورفع المحرّمات (التابو)، بحيث تباح أعمال كان من المألوف تحريمها فتصبح مستحبة أو تفرض فرضاً. وينطبق هذا بشكل خاص على مشاكل التهجير واللجوء وما ينتج عنها على جميع الاصعدة. ونعلم ان معالجتها تشغل الدول والحكومات.
وينطبق كلّ ما على الحرب في أوكرانيا. يتوقّع الكثيرون أنها ستغيّر الكثير من معالم السياسات العالمية لدرجة توقع البعض انبثاق نظام دولي جديد وتفكك العولمة ونهاية هيمنة أميركا.
لا شكّ أنّ الحرب على أوكرانيا أدّت، مع القيود المتكرّرة التي فرضتها جائحة كوفيد -19، إلى الإخلال بقواعد العولمة. فلقد تمزّقت سلاسل التوريد خلال العامين الماضيين وحصل نقص واضطراب في دورة توزيعها. ما جعل البعض يتوقع ان ينتج عنها الاضطراب وإعادة التفكير في نموذج التجارة الحرة العالمية بالكامل.
مع الحرب أدركت الشركات، إضافة للوباء، هشاشتها ومخاطر الاختناقات التي تتعرض لها. ونتيجة لذلك، فإنهم اليوم يعيدون فحص مصدر مشترياتهم وموقع مخزوناتهم، حتى لو كان ذلك أكثر تكلفة. ويبدو أن العديد من الشركات تخطط لإعادة مصانعها إلى أوروبا وتتطلع إلى تنويع مورّديها. فتقوم الشركات من جميع القطاعات بنقل إنتاجها إلى دول أقرب (تركيا، المغرب، البرتغال)، كي تخفض اعتمادها على العملاق الآسيوي. فالصين، مصنع العالم وورشة عمله الكبرى، لم تعد رخيصة أو تنافسية كما كانت من قبل. بشكل يبدو الأمر معه كأنه لا يتعلق فقط بالانتقال المكاني ولكن بتغيير النموذج.
قد يؤدّي ذلك، عبر المشاركة، لإنشاء أنماط إنتاج أكثر تماشياً مع القيم؛ فالليبيرالية الاقتصادية والأسواق الحرة أضعفت الدولة ومؤسّساتها فتراجعت أهمية الصناديق الضامنة وازداد مستوى اللامساواة. فلقد أسيء استخدام مفهوم العولمة منذ سنوات تحت تأثير المنافسات الاقتصادية المتوحشة وإغلاق المصانع في الدول الغنية، والسياسات الحمائية بسبب الذين يؤمنون بأن فتح الحدود التجارية لا يصب في المصلحة الوطنية.
لكن يمكن للحرب في أوكرانيا أن تزيد من سرعة هذه الحركة. خصوصاً أن العقوبات ضد روسيا اعتبرت بمثابة ضربة قاتلة للتجارة الحرة كما تم تعريفها عندما تم إنشاء منظمة التجارة العالمية (OMC) في عام 1995، وانضمام روسيا إليها في عام 2012.
أما بالنسبة لموسكو فلقد تسببت الحرب بعزلة بوتين، الذي كان قبل غزوه لأوكرانيا مناوراً ناجحاً ومحاوراً دائماً، ولو فظّاً، للعواصم الغربية. لكن القادة الغربيين لا يترددون اليوم في وصفه بـ"دكتاتور" و"مجرم حرب"، فبات معزولاً وتعرّض مقرّبين منه للعقوبات. ما حدا بماكرون التصريح بأن بوتين "ارتكب خطأً تاريخياً وأساسياً بحق شعبه وبحق نفسه وبحق التاريخ".
سبق لبوتين أن بدأ بإعادة رسم الخرائط بشكل صارخ من خلال ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية المطلة على البحر الأسود عام 2014، واحتلال أجزاء من جورجيا (أبخازيا وجنوب أوسيتيا)، وأعلن استقلالهما سنة 2008 ثم استولى على شبه جزيرة القرم الأوكرانية سنة 2014 وقام بمساندة حرب انفصالية في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، وكان قد استولى على عاصمة الشيشان عام 2000 وشارك في الحرب على الشعب السوري ولم يواجه أيّ ردة فعل قوية أو حاسمة من دول الغرب، ما شجعه على غزو أوكرانيا بكاملها بحسب وجهة النظر هذه.
كل ذلك أدّى الى ظهور ناتو مختلف بعد أن قررت كل من فنلندا والسويد، غير المنحازتين تاريخياً، الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الذي لم يكن في سلم أولويات البلدين. وأعاد تسليح ألمانيا.
أما العقوبات على روسيا فسوف تؤثر على العالم ككل، لأنها تحمل خطر الإضرار بالمستهلكين خارج روسيا التي تعد مورّداً عالمياً رئيسياً للحبوب ومصدراً لإمداد الأوروبيين بالطاقة. بدأ العالم بأسره يشعر بتداعيات الحرب التي تؤثر على النمو الاقتصادي وعلى قطاعي الغذاء والطاقة.
ولقد اعتبرت الأمم المتحدة أنّ الحرب في أوكرانيا تتسبب بأكبر ارتفاع بتكاليف المعيشة منذ جيل، ما يثير المخاوف من أزمة غذائية عالمية تهدد الملايين في البلدان الفقيرة وبحدوث موجات من المجاعة. الأمر الذي قد ينعكس بقيام انتفاضات أو تظاهرات ناهيك عن موجات الهجرة. فالعالم أصبح شديد الترابط.