كانت الساعة تُشير إلى الرابعة وعشر دقائق حينما قرّر مُسلّح استباحة حياة الناس العزّل وفتح النار في منتصف الشارع من دون إنذار. كيف لا و"معسكر" السوق السوداء بات حاكماً بنفسه وماله وجشعه وسلاحه المتفلّت!
أكتبُ عن لحظات صعبة قضيتها داخل مبنى "أوتيل البيرل"، عند تقاطع المشرفية- مار مخايل، عصر اليوم، محاصرة في "ساحة حرب"، لا يمكن أبداً تكهُّن نهايتها.
لم تكَد تمرّ دقائق على دخولي إلى المبنى حتى علا صوت أزيز الرصاص. ظننتُ أنّ الأمر سيقتصر هذه المرّة أيضاً على بضع طلقات "اعتاد" المواطنون، وبأسف، على سماعها يوميّاً، في الأزقة وبين المباني السكنية الآمنة. إلّا أنّ المشهد سرعان ما تطوّر إلى إطلاق نار متبادَل وعشوائيّ، استهدف "كافيه 77"، وقد ضُرِبت قنبلة أدّت إلى اهتزاز المبنى بأكمله وصُراخ من فيه.
في الطابق الثالث من المبنى "المُهاجَم"، نادٍ رياضيّ للسيدات، يضمّ نساء وفتيات من مختلف الأعمار، منهنَّ من لم تختبر بعد "خطر الموت"، فكانت هذه التجربة الأقسى عليهنَّ، بترويع مقصود، وخوف لن يُشفى بسهولة في الساعات أو الأيام المقبلة.
وعلى وَقع استمرار إطلاق النيران في الخارج، كان بكاء عدد من المتواجدات داخل النادي المشهد الأكثر إيلاماً. ترتجف إحداهنَّ وتتّصل بوالدتها بحثاً عن الأمان، فيما تُرسل أخرى تسجيلاً صوتيّاً لخطيبها للقول: "أنا محاصرة... بحبّك... بلكي كانت آخر "مسج" بيناتنا"!
بضع دقائق أخرى. الرصاص لا يزال يخترق آذان الحاضرات، والفوضى تعمّ الشارع. "وصل الجيش"، صرخ أحد الشبّان من الطابق الثاني، إيذاناً بالتحضّر لإخلاء المبنى. عملية الإخلاء هذه ليست إلّا لقطة من فيلم بوليسي شاهدناه مراراً في السينما. الهروب من الظلمة نحو الضوء، عبر مخرج وحيد من الباب الخلفي للمبنى، يمرّ بـ"كافيه 77"، الشاهدة على هَول "المعركة"، حيث الزجاج الكثيف يغطّي الأرض وعبوّات الرصاص الفارغة تحفر الزفت.
لم يختلف المشهد في الخارج عمّا رسمته مخيّلتي. آليات عسكرية وجنود بعتادهم الكامل، متأهّبين لإنقاذ المحاصرين، فيما العشرات من شبّان المنطقة يعاينون المكان، وهم الشاهدون على أحداث مشابهة جرت مِن قبل، وربما سيشهدون على حوادث مماثلة أخرى.
أيّ أثر نفسي ستترك هذه اللحظات على مَن خرج مِن المبنى بحراسة أمنية، إلى شارع أحاطه عناصر الجيش والأمن العام، وأمام أعين الكثيرين؟ هل نحن حقّاً في أحيائنا الآمنة وبين بيوتنا السكنية؟ أم نحن في مكان ما تعمّه الفوضى، افتقد هويّته بلحظة إطلاق الرصاصة الأولى؟ هل سنموت حقّاً برصاصة (طائشة)، لم تعد طائشة أبداً، في بلد يفتقد لكلّ مقوّمات الأمن والحياة؟ وهل سيبقى أمراء السوق السوداء يتحكّمون بمصائر المواطنين وحياتهم؟
لا تنفصل حادثة اليوم في الضاحية الجنوبية عن غيرها من حوادث القتل والثأر المقصودة والمتنقّلة بين المناطق، بعدما قُتِل 4 أشخاص بإطلاق نار مرعب استهدف محلّاً لبيع الهواتف في طرابلس منذ أيام. ألا يعي المسؤولون الخطر الداهم الذي يهدّد سكّان الضاحية وطرابلس والبقاع وعين الحلوة وكلّ زقاق من لبنان؟ وعن أيّ "وضع أمنيّ مستتبّ" يحدّثنا سيادة المدير العام للأمن العام، فيما كان الموت اليوم أقرب إلينا من أيّ وقت آخر؟
لسنا بخير يا سادة الأجهزة الأمنية. لسنا بخير يا أيّها المسؤولون المؤتمنون على حياة شعبكم ومستقبلهم، بعدما بات تأمين قوت العيش معركة يوميّة بذاتها، وصار الترفيه عن النفس ترفاً لا نستحقّه.
يأسرني صوت الرصاص منذ ساعات، بعد اختبار صدمات أمنية ونفسيّة عديدة، آخرها مشاهد القنص التي خلّفتها اشتباكات الطيونة، في تشرين الأول الماضي، في ذاكرتي. اليوم، عدتُ إلى منزلي تاركة مشاعر متخبّطة في ذلك المبنى. ربّما أقصده غداً من جديد، أو بعد أيام، إلّا أنّ الندوب لا تُشفى بإزالة أكوام الزجاج المحطّم وإصلاح ما تضرّر. ثمّة قلق يعتلي الروح، لن تبرّده كلمات مواساة عابرة، ونحن المدركين أنّ رجال السوء والسلاح المتفلّت يحاصرون يوميّاتنا ويهدّدون أحلامنا، وباتوا أقرب إلينا أكثر مِمّا نتصوّر.