النهار

قمم الرياض… رسالة أم تحوّل؟
قمة الرياض.
A+   A-
في السياسة، كما في التجارة، التوقيت يصنع الفرق… ولكن ليس كلّ الفرق. فالتحولات التاريخية ذات مسار طويل. قد تبدو هادئة تحت الرماد - كذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة - أو قد تغلي بين صمت وهمس، فعل وتفاعل، حتى تفور بركاناً طال خموده، فتنهي حياة، وتبدأ حياة، وتشقّ مسارات جديدة؟  

يسألني المراقبون: "هل قمم الصين في الرياض مع السعودية وأهل الخليج وبلاد العرب رسالة صارخة لواشنطن، أم هي نقطة تحوّل واستدارة تاريخيّة إن لم يتمّ تداركها من الغرب بسرعة ونضج وزخم، وستغيّر مع الأيام كلّ شيء؟  دراميّة اللحظة قد توحي بدراميّة الحدث، ولكن العلاقات الدولية والمصالح الاقتصادية أكثر واقعية وأقلّ عاطفيّة. 

القوافل والمعابر
الجسور وسيلة للعبور بين جهتين، وجسر الرؤية السعودية 2030  يستهدف تجديد الدور التاريخيّ للجزيرة العربية على مدى ألفَي عام كمعبر للقوافل التي تحمل الحرير والبهارات والسيوف الهندية في رحلة شتوية إلى مكة المكرّمة في طريقها صيفاً إلى بيزنطة؛ وتعود على نفس المسار حاملة خيرات الشام واليمن عبر البحر إلى شرق أفريقيا وآسيا. ولعلّ من المناسب تذكّر أنّ أهمّ عنصر نجاح لهذه التجارة الدولية على طريق الحرير البريّ كان تهجين عرب الجزيرة للإبل، سفن الصحراء، القادرة على حمل البضائع والركّاب مسافات طويلة، وفي ظروف بيئيّة صعبة، وبأقلّ قدر من الرعاية والتكلفة. 

درب ورؤية
من هنا تأتي المواءمة الضروريّة بين مشروع درب الحرير والطوق البحريّ، الذي ينطلق من الصين وتشارك فيه 123 دولة، في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصولاً إلى البندقية، وبين جسور البرّ والبحر والجوّ الذي تعمل السعودية ودول الخليج على بنائها. 

فمشاريع الخليج تشمل شبكة متكاملة من المرافئ والمطارات وشبكات الطرق السريعة والسكك الحديديّة، ومُدناً للتجارة الحُرّة كما في جبل علي ومطار الملك سلمان ونيوم، ومراكز تخزين وتوزيع لوجستية كما في الدمام وجدّة ورابغ، ومجمعات صناعيّة كبرى كما في الجبيل وينبع وجيزان، ومعابر جديدة كجسر الملك سلمان الذي يربط شمال السعودية بشبه جزيرة سيناء، وميناء الملك سلمان على البحر الأبيض المتوسط، وشبكات طاقة تقليدية ومتجدّدة، كتلك التي تنشأ حالياً في الإمارات والسعودية ومصر، وترتبط عبر البحر باليونان، كبوابة لدول أوروبا؛ وبناء شبكة سلاسل الإمدادات وتأمينها ضد مخاطر الأوبئة والإرهاب والصراعات الدولية.  

حكاية القمة 
العمل على هذه المشاريع بدأ مبكراً، وليس كردّة فعل على أحداث السّاعة. فعبر عقود من العمل الدؤوب، نجحت دول "المعبر العربي" في إنجاز بنية تحتيّة وعلويّة متكاملة. وهي اليوم، من خلال خططها التنموية في العقد الجديد، تسعى لتطوير هذه البنية بالتعاون الاستثماري التنموي والتجاري مع الدول المشاركة في المشروع الصينيّ في القارات الثلاث، وفي مناطق الشرق الأدنى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. 

ولتسريع الخطوات، وتنسيق الجهود، حمل الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، رغبة أعضاء المنتدى العربي - الصيني بعقد اجتماع قمّة عربيّة - صينيّة في الرياض العام 2019. ووجّه وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الدعوة إلى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال زيارته بكين في نفس العام، وتمّ الاتفاق على عقد القمة في 2020، إلا أنّ تداعيات جائحة كورونا أجّلتها إلى العام الحالي. 

وخلال تلك السنوات، لم تهدأ أنشطة الاجتماعات الوزارية واللجان الفرعية بين البلدين وبين دول مجلس التعاون الخليجي وأعضاء المنتدى العربي الصيني لتدارس خطط العمل وأجندات التنفيذ، حتى انعقاد القمم الثلاث في بيت العرب، الرياض، الأسبوع الماضي، مع الاتفاق على تكثيف التواصل بعدها. 

تحوّل لا ردّة فعل
مع ذلك، يصرّ الإعلام الغربي على تصوير المسألة كردة فعل على تدخّلات واشنطن في شؤون العرب، وإملاءاتها الإيديولوجية والسياسية، وتخلّيها عن تعهداتها الأمنية مع حلفائها من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى الخليج، علاوة على هرولتها لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، بالرغم من موته السريري، وفشله منذ توقيعه في العام 2015 في تحقيق أهدافه، وعدم تركيزه على برنامج إيران الصاروخي وسلوكيّاتها المزعزعة للأمن والسلام في المنطقة. 

كلّ ما سبق يفسّر تسارع خطى العرب نحو مزيد من التوازن في العلاقات الدولية، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، في تلبية الاحتياجات التنموية والأمنية بعد إصابتهم بالعمى الأيديولوجي وغرور القوة، خاصّة بعد أن أصبحت الصين القوة الأسرع تقدّماً على صعيد السباق الاقتصاديّ والتقنيّ والعسكريّ. فمؤشرات القياس في هذه المجالات تميل إلى أن بكين ستتقدّم الولايات المتحدة وأوروبا في المراتب الثلاث قبل نهاية العقد الحالي، من الألفية الثانية. 

تقلّبات وتنمّر
ثمّ إن العرب سئموا من التقلّبات التي تعتري السياسة الأميركيّة خاصّة، والأوربيّة عامة، مع تبدّل الإدارات والأحزاب، وتسلّط جماعات الضغط والأحزاب البيئيّة والليبرالية على حكوماتها. فالمشاريع الاستراتيجية بعيدة  المدى تتطلّب استقراراً وأمناً والتزاماً عند الشركاء. والصين في المقابل، توفر كلّ هذه المتطلبات من دون غرورٍ وتعالٍ، وتقلّبٍ وتبدّلٍ، وتدخّلٍ وإملاءات، خاصّة أنها تُشاركنا المعاناة، وتوافقنا على حق الدفاع عن السيادة والاستقلال؛ فتاريخها الطويل مرّ بعقود من الاستعمار الغربي والياباني، وواجه عقوداً أخرى من المعاداة والتعطيل. ويواجه اليوم، معنا، التنمّر والتعدّي والاستشراف. 

الحياد الإيجابيّ
مع ذلك، فمفهوم بناء الجسور يعني العبور بين ضفتين، وليس من مصلحة العرب استعداء أو خسارة أيّ منهما. ولهذا، تستبعد القيادات العربية فكرة التحزّب والاستقطاب، وتسعى إلى تكريس مبدأ الحياد الإيجابي، والتعاون المفتوح، والمصالح الدائمة. 

وهذه الرسالة هي ما تسعى السعودية وشركاؤها في أوبك بلس لإيصالها إلى مَن لا يستوعبها، برفضها تسييس وتسليح النفط، وتأكيدها على إبعاد قراراتها، بخفض أو رفع إنتاجها، عن الحسابات الانتخابية أو الصراعات الدولية أو المنافسات القطبية. فمصلحة سوق الطاقة والاقتصاد العالمي ككلّ تقتضي استقرار الأسعار، وتأمين الإنتاج، وتوفير المنتجات للمستهلك في كلّ الظروف والأوقات. فالطاقة عصب الحياة في الصناعة، والنقل، والزراعة، والكهرباء. وانقطاعها أو الإخلال بإمداداتها، والتقلّب في أسعارها، يعرّض العالم لأخطار بيئيّة ومعيشيّة واقتصاديّة مدمّرة. 

الشراكة الآمنة
الصين تملك المال والعلم، وهي كأيّ تاجرٍ ومستثمرٍ وعالمٍ تحتاج إلى أسواق وميادين وشركاء؛ والدول العربية، خاصّة دول الخليج، لديها النفط والغاز والدولار، وعندها طموحات عالية لتنويع مصادر دخلها، وتنمية بلدانها، واستثمار إمكانيّاتها الجغرافية والطبيعية. وإذا كان هناك مَن يتردّد في دعم توجّهاتها، فهناك مَن يدعمها، ومن الطبيعي أن تميل البوصلة حسب مغناطيسيّة المصلحة. 

والمجالات التي تمّ التوافق على التعاون فيها، تركّز على الطاقة المتجدّدة، والصناعات المتقدّمة، والذكاء الاصطناعيّ، وعلوم الفضاء، كما تشمل احتياجات الإنسان، وأهمّها الإسكان والصحّة والتّعليم، إضافة إلى أمن الأوطان بشراء وتصنيع السلاح النوعيّ، والتعاون الأمنيّ لمحاربة التطرف واستخدام القوة والتعدّي على سيادة الدول واستقلالها، والشراكة المجدية، الآمنة، المستدامة، من خلال الاستثمار المتبادل والمبادرات التعليمية والعلمية والسياحية والثقافية، والتجارة المفتوحة، من دون قيود العملة الصعبة، وباستخدام العملات المحليّة. 

منافسة لا تهديد
هل يشكّل هذا النوع من الشراكة الآمنة تهديداً لأحد؟ بالطبع لا، فالقطبيّة والانحياز والحصريّة أعداء الاقتصاد الحرّ؛ والنموذج العربي - الصينيّ يقدّم مثالاً حيّاً وناجحاً للشراكة المجدية، النديّة، السياديّة، بين العرب والعالم، ويرفع مستوى التنافسية بدخول عمالقة الاقتصاد الجديد، الصين، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، إلى حلبة الأسواق العربية. 
 
هل يُخرج التعاون العربي - الصيني البعض من دائرة الراحة والتواكل التي ألفوها خلال العقود الماضية؟ 
 
نعم، وهذا هو المقصود. فكما تراجع الإدارة الأميركية  الجديدة اتفاقية الأمن مقابل النفط التي صمدت ثمانين عاماً مع دول الخليج، فإنّ هذه الدول، بقياداتها الشابة، تراجع المبدأ أيضاً، خاصّة أنّها اليوم أكثر اعتماداً على قوّتها وإمكانيّاتها الذاتيّة، وأكثر انفتاحاً على القوى العظمى، والأسواق الكبرى، ولم تعد بحاجة إلى الاعتماد على قوّة بعينها، أو سوقاً بذاتها، بل تنشد بناء جسرٍ بين الأسواق، وحلقة وصل بين المصالح، وساحة مفتوحة على الحضارات. 
 مرحباً بالجميع في الشرق الأوسط الجديد "أوروبا الجديدة!".

@kbatarfi
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium