النهار

التصريحات الصينية - الأميركية.. عنتريات أم جرس إنذار حقيقي؟!
هادي جان بو شعيا
المصدر: "النهار"
التصريحات الصينية - الأميركية.. عنتريات أم جرس إنذار حقيقي؟!
وزير الدفاع الصيني.
A+   A-
بالرغم من الاهتمام الدوليّ المركّز على الحرب الروسية في أوكرانيا، فإنّ القمّة الأمنية لما يُعرف بـ"شانغري-لا" Shangri-la في سنغافورة خصّصت حيّزًا مهمًّا لقضايا الأمن الآسيوي، خلال اجتماعٍ على هامش القمة عُقد بين كلٍّ من وزير الدفاع الصيني "وي فنغ" ونظيره الأميركي "لويد أوستن". وبالرغم من أنّ المحادثات جرت بسلاسة بينهما – وفق ما يقول المسؤولون الصينيّون – فإنّ الخلافات ما زالت عميقة بين بيجينغ وواشنطن بشأن الموقف من السيادة على جزيرة تايوان.

وفي الوقت الذي تنظر الولايات المتحدة، التي تُعدّ أهمّ داعم دولي ومورّد للأسلحة إلى تايوان، بقلقٍ إلى سلوك الصّين في المنطقة، تقول بيجينغ إن تايوان المتمتّعة بالحكم الذاتيّ تُعتبر إقليمًا تابعًا لها، يدخل في نطاق نشاطاتها العسكريّة في بحر الصين الجنوبيّ.

ويتصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان التي تتمتّع بالديمقراطية وبحكم ذاتيّ، والتي تعتبرها بيجينغ جزءًا من أراضيها متوّعدةً بضمّها بالقوة إذا لزم الأمر، حيث نفّذت بيجينغ عشرات عمليات التوغل في منطقة الدفاع الجويّ التابعة لتايوان هذا العام، بينما حذّر وزير دفاعها "وي" نظيره الأميركي "أوستن" الجمعةَ من أن الصين مستعدّة لإشعال حرب إذا أعلنت الجزيرة استقلالها.

وفي السابق، قامت سجالات بين القوّتين بشأن قضايا عديدة انطلاقًا من مطالبات بيجينغ ببحر الصين الجنوبي، مرورًا بالتجارة، وصولاً إلى حقوق الإنسان في هونغ كونغ وشينجيانغ، بل ارتفع مستوى التوتر بشأن تايوان، خصوصًا بسبب ازدياد عمليات التوغل التي تنفّذها طائرات صينية في "منطقة تمييز الهوية لأغراض الدفاع الجوي" (أديز) التايوانية.

وخلال زيارة لليابان في الشهر الماضي، بدا الرئيس الأميركي جوزف بايدن كَمَن يتخلّى عن السياسة الأميركية المتّبعة منذ عقود، عندما قال في ردّ على سؤال "إن واشنطن ستدافع عن تايوان عسكريًّا إذا ما تعرّضت لهجوم صينيّ". لكن البيت الأبيض سرعان ما تدارك الموقف، مشدّدًا مذ ذاك على أنّ سياسته القائمة على "الغموض الاستراتيجي" بشأن إن كانت ستتدخّل أم لا لم تتغيّر.

بيد أنّ بيجينغ تطالب بالسيطرة الكاملة على بحر الصين الجنوبي الغنيّ بالموارد، في خلاف مع كلّ من بروناي وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام، علماً بأنّ البحر يُعدّ ممرًّا لتجارة بحريّة تقدّر بتريليونات الدولارات سنويًا.

واتُّهمت بيجينغ بنشر معدات عسكريّة تشمل صواريخ مضادّة للسّفن وصواريخ أرض - جو في المنطقة، متجاهلةً بذلك قرارًا قضائيًا دوليًا صدر في العام 2016 اعتبر أن لا أساس لمطالبتها التاريخيّة بمعظم أجزاء البحر.

وفي حين يختلف البلدان بشأن الغزو الروسي، تتّهم واشنطن بيجينغ بالدّعم الضمنيّ لموسكو، بينما تدعو الصين إلى إجراء محادثات لإنهاء الحرب، متجنّبةً إدانة أفعال روسيا، فضلاً عن انتقادها مرارًا تقديم الولايات المتحدة أسلحة إلى أوكرانيا.

وقد يتبادر إلى الذهن فور سماع التصريحات الصينيّة والتصريحات الأميركية المضادة أن الرئيس الصينيّ شي جينبينغ قد يقتفي مع تايوان أثَرَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أوكرانيا، كما قد يطفو على السّطح سؤال حول طبيعة المواجهة التي قد تنشب بين أميركا والصين، أفتكون بالوكالة على غرار الحرب الروسية - الأوكرانية أم تجري مباشرة؟

ممّا لا شك فيه أنّ التصريحات المتصادمة بين وزارتَيْ الدفاع في بيجينغ وواشنطن تأتي بمثابة مساومتيْن استباقيّتيْن لمآلات ما يحدث الآن في تايبيه وكيفية قراءة التايوانيين الوضع الراهن بين إرادة السيادة الصينيّة المُطلقة وإرادة "الحماية الأميركية"؛ ذلك أنّ الصين تعتقد بأنّ لديها فرصة ذهبيّة للتشبّث بالسيادة على منطقتيْن اثنتيْن: جزيرة تايوان أساسًا، وبحر الصين الجنوبي تبعًا، في حين تحاول الولايات المتحدة إبقاء قاعدة المناورات قياسًا بالوضع الراهن وعدم جنوح بيجينغ بتأويلاتها نحو إسقاط حال أوكرانيا على تايوان بالنسبة للمواجهة القائمة منذ أكثر من ثلاثة أشهر بين الكرملين من جهة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" من جهة أخرى.

ولا أدلّ على ذلك من تصريحات بايدن، الذي قال أخيرًا "إن الصين تلعب بالنار حاليًا عبر التحليق بالقرب من تايوان"، ممّا يكرّس مفاعيل الاستراتيجيّة الأميركيّة التي حملها معه سيّد البيت الأبيض منذ وصوله قبل 18 شهرًا، والتي تركّز على احتواء الصين China Containment، فيما يبدو أنّ العالم يعيش اليوم أوّل اختبار عمليّ لجهة القلق الأساسيّ الذي باتت تشكّله الصين فعليًا، خصوصًا أن واشنطن على مفترق طرق أساسيّ بين موسكو وكييف من جهة وبروكسل، حيث مقرّ الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، من جهة أخرى. وبالتالي باتت سياسة بايدن إزاء الصين تتركّز على أكثر من وجهة.

بيد أن محاولات الصين لاقتناص فرصة بسط سيادتها على تايوان يقابلها إجماع متماسك في البيت الأبيض وداخل الكونغرس الأميركي المناهض لتوجّه بيجينغ بالمطلق.

صحيح أن المناورات الصينيّة تأتي بمثابة رسالة إلى الداخل التايوانيّ كما إلى مراكز القرارات السياسيّة في الغرب خصوصًا واشنطن، ولكن قد يقول قائل إنّ تلويح الصين بالحرب يتزامن مع تغيّر جيو - سياسي هائل على وقع الغزو الروسيّ لأوكرانيا، ممّا يقودنا إلى طرح السؤال الآتي:

كيف أثّرت حرب الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في أوكرانيا على المواجهة الأميركيّة - الصينيّة حول تايوان؟

مَن يتابع عن كثب بإمكانه ملاحظة تأثيرَيْن أساسيَيْن:

- أولاً: يعيش العالم في عصر لا تُخاض فيه المعارك بأدوات تقليدية وإنّما بأدوات جديدة يسودها الاقتصاد السياسيّ والعقوبات، ولا تتلاقى مع أزيز الرصاص والمدفعيّات وسواها في أرض المعارك، ممّا يُكرّس تحوّلاً جديدًا، أو يصحّ وصفه بالتحوّر الجديد والابتعاد عمّا كان يعرف بأجيال الحروب الخمسة؛ وهناك حديث حول حرب الجيل السّادس التي تشكّل سردًا جديدًا؛ ولا أدلّ على ذلك غير حرب أوكرانيا.

- ثانيًا: الانشغال بالحرب الأوكرانية منذ 24 شباط/فبراير 2022 حتى الآن، وتركيز الغرب على احتواء الكرملين في الأساس، قد يُثير في بعض القراءات، خصوصًا الصينيّة منها، أن هناك إمكانيّة لما يسمّى "الانتهازية السياسية" في العلاقات الدولية وانشغال الغرب ومعه الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية. لكن إذا ما تمعّنا في تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وكذلك في البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، يتّضح أن هناك حسمًا نهائيًا لتقييد هامش بيجينغ بالتحرّك أكثر ممّا هو قائم اليوم، فضلاً عن أن مسألة رفع منسوب المطالبات والتهديدات لتايوان تنطوي على عواقب وخيمة، الأمر الذي يحمل في طيّاته تحذيرًا ضمنيًّا لبيجينغ؛ وهي الرسالة ذاتها التي وجّهت إلى الرئيس الصيني قبل شهرين، عندما اجتمع من بُعد مع الرئيس الأميركي الذي لا يُريد أن يغفل عن الصين نتيجة انشغاله بأوكرانيا.

إزاء كلّ ما تقدّم، يُمكن الخلوص إلى أن إدارة بايدن عملت وفق فرضيّة أن حرب أوكرانيا تمثّل فرصة ذهبيّة لإعادة تكريس زعامة أميركا للعالم عبر إعادة نفخ روح جديدة في كيان حلف شمال الأطلسي، ممّا يشي بالعودة إلى حقبة تسعينيّات القرن الماضي.

لكن ما بات ملاحظًا أن العلاقات الدولية تتحرّك اليوم شرقًا، سواء نحو بيجينغ أو موسكو أكثر منها غربًا، ممّا يفرض على الجميع الركون إلى الواقعيّة السياسيّة، ومسح مجموعة من المفاهيم التقليدية التي سادت العقدين الماضيين على غرار الحرب الباردة، توازن القوى، النظام العالمي الجديد وسواها... إذ بات العالم يعيش مرحلة البحث عن توازن قوى جديد بين ثلاثة أقطاب رئيسية: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وبدرجة أقلّ الاتحاد الأوروبيّ، حيث تفتقد إلى التناغم الكليّ، والعمل جارٍ على إعادة تركيب حلفَيْن رئيسيَيْن: روسيا والصين وفق ما يعتقد البعض من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفق ما يرى مؤيّدو حلف شمال الأطلسي من جهة ثانية.

لا يزال العالم يرزح تحت رحمة رباعيّة دوليّة، يقترب اثنان منها من بعضهما بنسبٍ معيّنة، فيما يبتعد الطرفان الآخران؛ بمعنى أنّ الصين لم تؤكّد أنّها العضو الذي يعوَّل عليه في الحلف الشرقيّ، كذلك الحال بالنسبة لأوروبا في الحلف الغربيّ، أوروبا التي وإن اقتربت من أميركا، لا تزال لديها خياراتها الاستراتيجية.

اقرأ في النهار Premium