ينشغل الإعلام العربي بالتقرير الذي نشرته مجلة الإيكونوميست عن المرأة العربية واعتبارها أكثر بدانة من الرجل، باعتمادها على نموذجي: العراق الغارق بمشكلاته بين العنف والإرهاب وداعش والاحتلالات منذ العام 2003؛ ومصر البلد الذي يشكو منذ مدة طويلة من تزايد سكانه بأعداد غير مسبوقة، ويعاني من المشكلات الاقتصادية، التي لم يكد يتخفّف من ثقلها حتى عاجلته حرب روسيا على أوكرانيا، ممّا يهدّده حالياً بتداعيات اقتصادية واجتماعية جدية.
فعن أيّ نظام غذائيّ أو ممارسة رياضيّة نتحدث في بلدان تخضع لظروف استثنائية غير مؤاتية للصحة بمجملها، سواء أكانت بدنية أو نفسية أو عقلية؟ وأي جسد مثالي قد يهمّ الفقراء هناك؟
أشير إلى ظروف البلدين، لأن العنف والفقر يقضيان على المجتمعات، ويمنعان الناس من ممارسة حياتهم بشكل طبيعيّ. ولقد أشار تقرير الإيكونوميست نفسه إلى أن نساء الطبقة الغنية لا يعانين من السمنة في مصر.
أعتقد أنه من حقّ المرأة العراقية أن تعترض على استخدام صورتها بالطريقة التي حصلت، وعرضها كنموذج للبدانة في تقرير غير متوازن، ولا يأخذ ظروف المجتمعات بعين الاعتبار، ويعتمد على أرقام إحصائيّة عامة ويُعطيها دلالة موحّدة على جميع المجتمعات والطبقات من دون تمييز أو دقة Nuances. ومن المعلوم أن البدانة تعدّ مشكلة أساسيّة في المجتمعات الفقيرة التي تعتمد النشويات، وفي الغنية كأميركا مثلاً، حيث تُطرح مشكلة البدانة بسبب كثرة الطعام ونوع الطعام: "فاست فود" وعدم ممارسة الرياضة إلا عند فئات معينة.
تقرير الإيكونوميست استسهل كثيراً إثارة موضوع حسّاس ومن دون اهتمام بالدقة أو التمييز، خصوصاً عند إجراء مقارنات على هذا المستوى، مع أنها مجلة رصينة وتعدّ مرجعية، لكن الكاتب هنا عالج الموضوع بشكل شموليّ بمختلف معاني هذه الكلمة.
أكتب هذا من مونتريال التي يعمّها الآن تراند جديد يمنع أي إشارة يمكن أن تُسبّب حرجاً أو تخجيلاً أو حكماً قيميّاً على أحد أو أيّ شخص، سواء تعلّق الأمر باللون أو العرق أو الجنس أو الشكل أو البدانة أو اللباس أو أيّ أمر آخر.
وقد لاحظت منذ وصولي إلى مونتريال هذا العام مسألتين، الأولى أن أسماء مشهورة في موضة الملابس الداخلية، كـ"La vie en rose" أو"La Senza" وغيرها، اعتمدت واجهات تبرز مانيكانات ذات قياسات كبيرة، كما أن سائر المحالّ أيضا بدأت بعرض ملابس للسيدات من ذوات المقاسات الكبيرة في واجهاتها.
وبما أن مونتريال في شهري تموز وآب تشتهر باحتفالاتها ومهرجاناتها الموسيقية واستعراضاتها، ممّا يجعل الازدحام في شوارعها على أشدّه، فقد سمح لي ذلك بملاحظة الأمر الثاني اللافت جداً، وهو نوع ملابس وأزياء الأجيال الشابة (وغيرها أيضاً) المنفلتة من كلّ رقابة أو معيار. إنهم يتنزّهون بملابس قريبة جداً من الملابس الداخلية من ناحية، ويرتدون كلّ ما يخطر لهم على بال من ناحية أخرى، سواء أكانت أجسادهم نحيلة وجميلة أم بدينة ومترهّلة أو غير متناسقة.
أي أن كل قواعد كبار مصمّمي الأزياء، التي تحرص على مقاييس صعبة للجمال، وعلى الأناقة، وتعمل المستحيل لتخبئة عيوب الجسد وإظهاره بأحلى حلّة، رُميت بعيداً، وأصبحت وراء ظهور الشابات خصوصاً، كما لو أن الأمر ثأر من الاضطهاد الذي عانت منه اللواتي لا يمتلكن أجساد عارضات الأزياء المثالية والنحيلة. الشعار الحالي هنا: عليكم أن تقبلونا كما نحن، ولسنا مجبرين على تخبئة أجسادنا إذا لم تكن مقاييسها منسجمة أو نحيلة أو غير متناسقة مع معاييركم.
الوضع المستجد حدا بصحيفة كندية تصدر في مونتريال إلى تخصيص الموضوع الأساسي في عددها الصادر أواخر تموز بعنوان:" نرتدي ما نريد"، مرفقاً برسم كاريكاتوري لفتيات بدينات وضخمات. "ليس لأننا بدينات لا يمكننا أن نلبس ما نريد". كانت هذه الرسالة المتداولة على إنستغرام من قبل مبدعين ومبدعات موضة عارضين لأزياء ملونة ومكشوفة ومبتكرة، الأمر الذي أثار حماسة متابعيهم، لأن ما يقدّمونه لهم موحٍ، ويساعد الأشخاص كبار الحجم على أن يشعروا بالثقة عندما يختارون ملابسهم.
لقد كان خبراً سعيداً. لكن المشكلة أن تسوّق كبار الحجم مقاسات كبيرة ليس سهلاً دائماً. الكثير من المحالّ لم تعد تبيعها ببساطة، والبعض الآخر لديه عدد محدود من الموديلات.
ازدادت المشكلة بعد جائحة كوفيد وما تسبّبت به من اضطراب السوق والتسوق، ممّا أدّى إلى إغلاق الكثير من المعامل وبيوت الأزياء والمحالّ الصغيرة التي لم تستطع الصمود. وأكثر من تأثر بذلك القياسات الكبيرة التي ألغاها البعض، ولم تعد موجودة إلا في محالّ معيّنة، ولا تقدّم تنوعاً كبيراً.
إنها ثورة تحرّر جديدة للجسد بعد موجة الستينيات مع تويجي النحيلة جداً، وعُري بريجيت باردو وجسدها الذي دوّخ الكثيرين.
ومن المؤسف أن نجد أن الإيكونوميست لم تكن على نفس القدر من المراعاة أو الـsubtility التي تجتاح الآن مونتريال.