محمد فحيلي خبير المخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد
عند الامتحان يكرم المرء أو يهان... يهان!
بعد أن أُغرِقت الطبقة السياسية الحاكمة برسائل العتب والاتهام بالاستلشاق لجهة مسؤوليتها تجاه المجتمع اللبناني إبتداء من الرئيس الفرنسي في خطابه عند إستلام فرنسا لرئاسة المجموعة الأوروبية وفي خطاب القسم عند انتخابه مجدداً رئيساً لفرنسا، والسفير البابوي في لبنان، والرسائل من دول التعاون الخليجي، وأخيراً تقارير البنك الدولي وإتهاماته لمكونات السلطة بـ"الإنكار الكبير" و"الكساد المتعمد" و"البونزي سكيم". وبعد أن استشفت خطورة في بقاء الأسرة الدولية على استعداد وجهوزية لمساعدة لبنان، سارعت السلطة الحاكمة إلى إنتاج مشروع الموازنة العامة للعام 2022 ضاربة المهل الدستورية بعرض الحائط، وبما توفر وليس بالتركيز على ما هو ضروري وما هو بحاجة له اللبناني الصامد والاقتصاد الوطني الذي يصارع الموت منذ أكثر من سنتين.
لاشك في أن تقديم مشروع الموازنة العامة للعام 2022 في هذا التوقيت هو مخالفة وقحة للمهل الدستورية وإن أقرت في الهيئة العامة فإنها ساقطة إقتصادياً.
مقتبساً شخصية "رجل الدولة،" ومتحصناً بالدستور والقانون أعطى لنفسه الحق المطلق باستخدام المالية العامة كأداة لسيطرة ممنهجة على موارد البلاد، فساعد ذلك على إنتاج نظام اقتصاد سياسي متجذِّر لخدمة مصالح مكونات الطبقة السياسية. بات واضحاً اليوم إستخدام التراكم المفرط للديون لخلق وهم الاستقرار. أدى الكساد، الذي كان متعمداً خلال السنوات الماضية، إلى إفراغ الدولة من قدراتها على تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين. لذلك لا جدوى من الغوص في الأرقام لأن حتى من قام بتجميعها وتحضيرها يتبرأ منها! فبعيداً عن الأرقام في مشروع الموازنة، وفقط في سلوكيات الطبقة السياسية الحاكمة، هل تعكس مواد مشروع الموازنة العامة للعام 2022 متطلبات الأزمة الاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، أو حتى جدية الحكومة في مقاربة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟ وما هي الإصلاحات التي اقترحتها الحكومة في مشروع الموازنة لإنقاذ الاقتصاد ولترميم الثقة بين الطبقة الحاكمة والمواطن؟ وهل بمقدور المواطن تحمل أية ضرائب إضافية سواء "مُقَنّعَة" أو مباشرة؟ وماذا عن الهدايا المالية التي اقترحتها السلطة في مشروع الموازنة، هل زيادة الرواتب والأجور هي الحل لمعاناة المواطن؟ في ظل غياب الإصلاحات الجدية سوف يتم تمويل هذه التقديمات من جعبة المستفيد الأول، المواطن.
إنه مشروع موازنة "صُوَري" ولا يرقى لمستوى موازنة إنقاذ لبنان من أزماته المدمرة والتي مازالت حتى اليوم ومنذ أكثر من سنتين. وتخلل هذه الحقبة الزمنية المؤلمة جائحة كورونا وإنفجار مرفأ بيروت والحرب الروسية-الأوكرانية ووصول الدولار الى عتبة الـ 40000 ليرة. فرص ضائعة وصفحات صرفت على تفنيد مشروع مواد قانونية فارغة من الأمل في مستقبل واعد لأولادنا وأحفادنا. صفحات من هدر للحبر والأوراق والوقت لموظفي وزارة المالية.
الغائب الأكبر عن مشروع الموازنة للعام 2022:
• الإصلاحات البنيوية والإنفاق الإستثماري بشكل عام.
• تمكين وتفعيل عمل الهيئات الرقابية كمجلس الخدمة المدنية، وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي، وتحرير لجنة الرقابة على المصارف من "سلطنة" مصرف لبنان وتمكينها وتفعيل عملها في الرقابة.
• خطة لاستثمار الأملاك العامة بشكل عادل وموضوعي، وإنهاء الإمتيازات والإعفاءات الضريبية المفعمة بالفساد والهدر.
• عدالة في إقرار وتنفيذ الضرائب، وتفعيل الجباية.
• خطة لإعادة هيكلة وجدولة الدين العام بشقيه اللبناني والدولار.
• حزام أمان اجتماعي بعد أن تعدت نسبة الفقر عتبة الـ 80%.
• دعم الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي من خلال تسديد الدولة لالتزاماتها لتمكين الصندوق من دعم الطبقة الأكثر حاجة لخدماته وتقديماتها في تغطية فاتورة الاستشفاء.
إلهاء الشعب اللبناني بالأرقام المفبركة هو محاولة لحرف الأنظار عن الإصلاحات الضرورية والتي تمتنع الطبقة السياسية عن إقرارها خصوصاً في ظل انكماش اقتصادي موجع. من غير المسموح أن تقوم السلطة السياسية بإقتراح مشروع موازنة عامة تتعدى بإجمالي أرقامها أكثر من ضعفي الناتج القومي. نهار الأربعاء المقبل هو اليوم الأول من الجولة الثانية لمناقشة مشروع الموازنة الذي خالف بتوقيته المهل الدستورية؛ ومن بعدها، وإن لم تتظهر وتتفجر الخلافات بين مكونات مجلس النواب، سوف يرسل إلى رئيس الجمهورية لتوقيعه، ويوقعه فقط إذا وجد في ذلك مكاسب لفريقه السياسي؛ مصيره لن يختلف عن مصير التعيينات القضائية وقانون الكابيتال كونترول والسرية المصرفية والتحقيق بجريمة مرفأ بيروت. إنه نهج الفشل – الفشل المتعمد! كن حاضراً يافخامة المواطن إلى الاستماع إلى فائض من الكلام المعسول دفاعاً عنك وحرصاً عليك من حماية وديعتك إلى تأمين شيخوختك. كان الله بعونك!
العناوين العريضة لما يجب أن يتضمنه مشروع موازنة الإنقاذ والتعافي:
1. نهج جديد للسياسة النقدية من شأنه أن يطلق عجلة استعادة الثقة والاستقرار إلى القطاع المالي ووقف الإضطرابات المتكررة في حركة سعر صرف الدولار في الأسواق المحلية.
• برنامج لإعادة هيكلة وجدولة الدين العام بشقيه اللبناني والدولار.
• إعادة هيكلة وجدولة ديون المصارف للقطاع الخاص ووضع آلية واضحة وخطة قابلة للتطبيق لمعالجة الموجودات الهالكة (Troubled Assets).
2. إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي لاستعادة الملاءة المالية للقطاع المصرفي. هذا لايعني تقديم الدعم لكل مصرف بل فقط للمصارف التي تثبت قدرة على الاستمرار في خدمة الإقتصاد.
3. إعادة هيكلة شركة كهرباء لبنان لوقف النزيف الذي يسببه عجز هذه المؤسسة.
4. إصلاحات هادفة إلى الإنقاذ والإنعاش فوراً ومن ثم تعزيز حظوظ لبنان في النمو الإقتصادي المستدام.
5. حزام أمان لتفعيل وتعزيز الحماية الاجتماعية.
وفي روحية مواد مشروع الموازنة ونهج الطبقة السياسية في مقاربة الحلول حتى في زمن الأزمات؛ اقتراحات ومواد مفعمة بالوعود الفارغة. صدق من قال "فاقد الشيء لا يعطيه". وإليكم نكهة مما نجده في مشروع الموازنة:
• إعتمادات لدعم فوائد القروض الإستثمارية من أموال مصرف لبنان الخاصة أو أموال الإحتياط لديه والتي هدرت على الدعم العشوائي للإستيراد.
• هدية لمؤسسة كهرباء لبنان، الفاسد الأكبر، قدمت بشكل سلفة على الخزينة طويلة الأجل.
• إعفاء الفوائد الناتجة عن الودائع الجديدة (فريش) بالعملات الأجنبية من الضريبة، ولكن هذه الفوائد لا تنتج أصلاً وذلك بموجب أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 150.
• اعتماد التوطين لدى المصارف بصورة إلزامية من أجل دفع رواتب المستخدمين وسائر التعويضات والبدلات مهما كانت تسميتها في المؤسسات والشركات كافة. وكذلك التي تدفع للمدراء وأعضاء مجلس الإدارة. ترميم الثقة أولاً.
• تعديل القانون 42/2015 (التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود) لهيئة التحقيق الخاصة وللإدارة الضريبية صلاحية الولوج المباشر للتصاريح والوثائق والمستندات موضوع هذا القانون والمحفوظة لدى السلطات الجمركية. ضبط الحدود أولاً.
• تعديل قيمة ضمان الودائع المصرفية على أن يدفع من أصل الضمانة المذكورة نسبة 30% فور صدور قرار إعلان التوقف عن الدفع أو قرار وضع اليد ويدفع الرصيد الباقي إما تقسيطاً وإما عن طريق سندات خزينة خلال مهلة سنة وفقاً لما يقرره المجلس المركزي لمصرف لبنان. فاقد الشيء لا يعطيه!
• تُلزم المصارف بتسديد للودائع الجديدة (فريش) بالعملة الأجنبية ذاتها وبالطريقة عينها التي تودع لديها بناء على طلب صاحب العلاقة. أنجز بموجب تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 150.
• الإجازة للحكومة، أو لوزير المالية بتفويض منها، تحديد سعر تحويل العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية من أجل إستيفاء الضرائب والرسوم. وهذه هي بدعة الدولار الجمركي الذي تعذر الإتفاق عليه!
ما يريده المواطن منكم هو أن تلتزموا أنتم أولا بواجباتكم تجاه الوطن والمواطن والمباشرة وبجدية بالإصلاحات وبالتفاوض مع الدائنين وإعادة جدولة الدين العام حتى تستطيع المصارف إطلاق عجلة ترميم الثقة بينها وبين زبائنها والعودة إلى الحياة الطبيعية التي سوف تكون صعبة ومستحيلة في ظل فقدان الثقة بينها وبين المودع التي أنتم، يا أرباب السياسة، كنت السبب وراءها. وانتم السبب وراء إقفال المصارف لعدد من فروعها، وإنسحابها من بعض الأسواق، وتقليص خدماتها في السنتين الأخيرتين.
ما يعطي الأزمة في لبنان اليوم أهمية استثنائية هو أنها تحدث في بيئة جيوسياسية تتّسم بدرجة عالية من عدم الإستقرار، الأمر الذي يزيد من الحاجة إلى المعالجة السريعة لهذه الأزمة الحادة. ولكن لا حياة لمن تنادي! السؤال الأهم اليوم، كيف للأسرة الدولية الاستمرار في تمويل وإنقاذ مكونات هذه السلطة التي لا توفر فرصة لتسجيل مكاسب سياسية وإستثمارها ولو كانت على حساب الوطن والمواطن. هذه السلطة المسؤولة الأكبر عن الانهيار الاقتصادي، والمسؤولة عن ثالث أكبر انفجار، والمسؤولة عن أكبر جريمة مالية ونقدية دولياً، لا تزال تسيطر على الحُكم، وتلعب دور الحكَم في توزيع الخسائر والمسؤوليات، وهي التي تُحاسب الآخرين عن الجريمة التي ارتكبتها. هذا يعني أن القيّمين في الدولة لا يزالون يحكمون عوضاً من أن يُحاكموا، وهم يُحاسبون عوضاً من أن يُحاسَبوا!
مشروع موازنتكم هو اعتراف باستمرار نهج فسادكم المتعمد وفشلكم الحتمي... إقراركم هذه الموازنة يعطيها براءة ذمة دستورية فقط لأنه ساقط ساقط اقتصادياً!