النهار

كييف "قربان" سياسة واشنطن المتبدّلة والمتخاذلة
جندي أوكراني في وحدة مدفعية يطلق النار باتجاه مواقع روسية خارج باخموت، أوكرانيا (أ ف ب).
A+   A-
يؤكد سياسيّون دوليّون أن الحوار والدبلوماسية هما السبيلان الوحيدان القادران على إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية مع استحالة أن يحقق أيّ طرف من أطراف الحرب نصراً كاملاً. لكن الحديث عن الحوار بات شبه غائب في ظلّ اشتداد المعارك والتعبئة والدعم المتواصل.
 
تأتي مساعي واشنطن الديبلوماسية السريّة في وقت يتزايد الضغط على حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، حيث تلقي تداعيات الحرب بظلالها على اقتصادات العالم عبر ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، بينما بلغ التضخم مستويات غير مسبوقة دفعت بالبنوك المركزية حول العالم، خصوصًا الغربية منها، إلى العمل على مواجهتها بطرق عدّة.
 
على الرغم من ذلك، تبقى الولايات المتحدة الأميركية الداعم الغربي الأكبر والأبرز لأوكرانيا عبر تقديمها نحو 19 مليار دولار أميركي كمساعدات عسكرية لكييف منذ تسلّم الرئيس الأميركي جو بايدن رئاسة البلاد، إلا أن هذه المبالغ قد تفقدها كييف في خلال الأشهر القليلة المقبلة مع فوز الجمهوريين في الانتخابات الأميركية النصفيّة.
 
الجدير بالذكر أن تركيا سبق لها أن توسّطت بغية إيقاف الغزو الروسي لأوكرانيا، خصوصًا أن الجولة الأخيرة من المفاوضات التي عُقدت في مدينة إسطنبول في 29 آذار الماضي لم تُفضِ إلى نتائج تُذكر لتتوقف منذ ذلك الحين على الرغم من جهود الأمم المتحدة.
 
بين هذا وذاك لا يخفى على أحد أن الغرب عمومًا بدأ يتململ من آثار هذه الحرب وتداعياتها التي تضغط اقتصاديًا واجتماعيًا على الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يدفعهما بالفعل للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، التي أكدت فيه أنه سيتعيّن على الغرب التفاوض مع روسيا عندما يزداد الوضع الاقتصادي في أوروبا سوءًا، في وقت تواجه الولايات المتحدة الأميركية ركودًا اقتصاديًا بدأت ملامحه بالظهور جليًا. وأضافت الصحيفة أنه إذا ما ساءت الأمور الاقتصادية في أوروبا، ودخلت أميركا في حال ركود اقتصاديّ، فليس من المبالغة في مكان الإشارة إلى أن الدعوات إلى التسوية السياسيّة ستُصبح ملموسة أكثر إذا ساعدت على تخفيف العبء الاقتصادي عنها.
 
ذلك أن ألمانيا التي تُعدّ أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي اضُطرت إلى رصد 200 مليار يورو لمساعدة المستهلكين والشركات المتضرّرة من ارتفاع أسعار الطاقة، مع الإشارة هنا إلى أن الناتج المحليّ لكل من فرنسا وإسبانيا انكمش خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فيما بلغ معدّل التضخم في منطقة اليورو رقمًا قياسيًّا بنسبة 10,7% في شهر تشرين الأول. أما في دول البلطيق، فقد تجاوز هذا الرقم الـ22 في المئة بسبب الارتفاع الحادّ في أسعار الوقود والغذاء.
 
أمام ذلك كلّه، تزامن بروز خبرَيْن بين عناوين الصحف الأميركيّة، واحد على ذمّة صحيفة "واشنطن بوست"، والثاني على ذمّة صحيفة "وول ستريت جورنال"، وكلا الخبرين يصبّان في الهدف عينه، ومفادهما أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت بمفاوضة روسيا، وتريد من أوكرانيا فعل الأمر نفسه. فقد قالت صحيفة "واشنطن بوست" إن واشنطن حثّت كييف سرًّا على إبداء المرونة وقبول التفاوض مع موسكو. ونقلت الصحيفة عن مصادر لم تذكر اسمها أن طلب المسؤولين الأميركيين لا يهدف إلى الضغط على أوكرانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات وإنّما يمثّل محاولة لضمان أن تحافظ كييف على دعم دول أخرى.
 
وأضافت الصحيفة أن مسؤولين أميركيين وأوكرانيين أقرّوا بأن رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إجراء محادثات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين تسبّب بنشر حال من القلق في أجزاء من أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث تشعر تلك المناطق بحجم كبير لتبعات الحرب الروسية - الأوكرانية على تكلفة الغذاء والوقود؛ وهذا يعني باختصار أن ذريعة الأميركيين لحثّ الأوكرانيين على التفاوض ليست سوى بدء الامتعاض في دول العالم التي أرهقتها حرب الاستنزاف هذه، وهو ما يوحي بأنّ الأميركيين بدأوا يفكّرون في سبيل لإنهاء هذه الحرب؛ وهذا ما يؤكّده الخبر الذي نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" التي قالت إن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليڤان أجرى محادثات غير معلنة مع كبار المسؤولين الروس على أمل الحدّ من مخاطر امتداد الحرب في أوكرانيا أو تصعيدها إلى أزمة نووية. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين أن سوليڤان أجرى محادثات سرية في خلال الأشهر الأخيرة مع سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، وكذلك مع مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف، من دون أن يتمّ الكشف عنها.
 
بيد أن هذه المحادثات، فضلاً عن المحاولة لاحتواء الحرب، تبحث عن طريق للخلاص؛ ذلك أن الغزو الروسيّ لأوكرانيا بات أشبه بجائحة كورونا من حيث التّبعات والتأثير، ولم تستثنِ أحدًا في هذا العالم، بمن فيهم المواطن الأميركي نفسه، الذي بات يشعر بأنّه يدفع ثمن هذه الحرب. ومن خلال ذلك يُمكن فهم تصريحاتٍ لقادة الحزب الجمهوريّ، الذين ألمحوا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة وقف دعم كييف على أمل إنهاء الحرب، وشاركهم في ذلك جزء كبير من القادة الديمقراطيين، الذين باتوا يفكّرون في ضرورة الخلاص، ليس بسبب تبعات الحرب وإنّما لوجود حرب أخرى ستُفرض على الأميركيين قريبًا!
 
لا شك في أن الحديث هنا يقودنا إلى الصين التي تمثّل الرعب الأكبر والأخطر في نظر الولايات المتحدة الأميركية مع تيقّن واشنطن جيّدًا أن روسيا ما زالت بعيدة من قمّة العالم حتى وإن سعت إلى ذلك، نظرًا إلى اعتبارات عديدة، أبرزها الشق الاقتصادي.
 
لكن الصين تنافس بقوة اقتصاديًا. وما يزيد من هواجس الأميركيين هو تمديد حقبة الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي لا يبحث فقط عن ضمان بقاء قوة بلاده وقدرتها على المنافسة بل يتطلّع إلى تكريس مجد شخصيّ، وحفر اسمه في التاريخ؛ الأمر الذي يتطلّب منه حسم الصراع والمنافسة مع واشنطن على زعامة العالم. وقد ضرب الصينيّون موعدًا زمنيًا لضمّ جزيرة تايوان، الأمر الذي تعتبره واشنطن خطًّا أحمر، فإذا ما تجاوزته الصين فيعني ذلك الحرب، خصوصًا أن تايوان ليست كأوكرانيا بالنسبة إلى الأميركيين.
 
تاريخيًا، كانت كييف جزءًا من الاتحاد السوفياتي، ولطالما تعسكرت في معسكرهم، فضلاً عن كونها دولة لم تمثل كثيرًا من مصالح أميركا الكبرى على عكس "جزيرة الكنز" تايوان، التي تمثل موطئ قدم لأميركا في بحر الصين، وتدعم تواجدهم بين حلفائهم الآخرين، حيث كوريا الجنوبية واليابان، كما تُعتبر بمثابة السكين المغروسة، إذا جاز التعبير، في خاصرة الصينيين، وتحول دون تمدّدهم، ناهيك بأسباب أخرى عديدة تجعل من تايوان جوهرة الهيمنة الأميركية في منطقة بحر الصين والمحيط الهادئ وشرق آسيا وليس من السهولة بمكان التخلّي عنها.
 
ويدرك الأميركيون أن مسألة فقدان تايوان سيفتح الباب أمام الصينيين للصعود نحو القمّة، وبالتالي فإن منطق المفاوضات الأميركية - الروسية، وحثّ أوكرانيا على الحوار قد يُعدّ مفهومًا وفق السياق العام الذي تنتهجه واشنطن، بالإضافة إلى أن التضحية بأوكرانيا لن يكلّف الأميركيين كثيرًا من تأنيب الضمير! فمسألة دعمها منذ البداية تمحورت حول استنزاف الروس والنجاح بتوريط الأوروبيين وجعلهم على خط التماس مع موسكو. وفي ذلك كلّه مصالح أميركية تقتضي بأن لا تدوم الحرب أكثر من ذلك حتى لا تتحوّل المصلحة إلى كارثة على الأميركيين، نظرًا إلى إصرار الروس على المُضيّ حتى النهاية مع استعدادهم لخوض الحرب حتى لو كانت أبديّة.
 
لذا لا بدّ على طرفٍ ما أن يتنازل، وبالتأكيد ليس موسكو، فوَقَع الخيار على كييف لتكون قُربانًا على مذبح السياسة الأميركية المتبدّلة والمتخاذلة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium