غسان صليبي
هذا النص هو ردّي على الاهانة التي لحقت بي كمواطن ينتمي الى انتفاضة 17 تشرين.
انتفاضة ١٧ تشرين أو ثورة ١٧ تشرين كما يسمّيها البعض، هي التي حملت العلم اللبناني، دون غيره، في وسط بيروت وفي جميع المحافظات. هي التي شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين، من أعمار مختلفة ومن جميع الطوائف والمذاهب. إنها هذا الحدث الوطني الذي اعتبره مؤرخون ومفكرون، أهم تحرك شعبي موحّد منذ نشأة لبنان الكبير، والذي طالب بالحرية والاستقلال وباللاطائفية والعدالة الاجتماعية والحكم النزيه الخالي من الفساد.
هذه الانتفاضة أو هذه الثورة، هي نفسها التي وصفها نصرالله في خطابه الأخير بـ"الفوضى التي أتت بها الولايات المتحدة إلى لبنان تحت عنوان 17 تشرين الأول من العام 2019"، لافتاً إلى أن الحزب كان لديه الشجاعة للتشكيك في خلفية هذا الحراك منذ اليوم الأول، معترفا بـ"أن الكثر في لبنان أُخذوا بالشعارات الطنانة"، معتبراً أن "الولايات المتحدة هي التي أرادت الفوضى في لبنان في عام 2019 بعدما فشلت مخططاتها وزرعت لعنتها التي تصدى لها حزب الله والشرفاء".
بالنسبة الى نصرالله:
- الانتفاضة أو الثورة هي "فوضى"، والفوضى هي عكس النظام، لأن الانتفاضة زعزعت اشتغال "النظام" الذي كان يشرف عليه حزبه، والذي كان يحمل معه كل بذور الانهيار الذي حصل، على المستوى الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
- هؤلاء "الكثر" الذين صنعوا الانتفاضة أو الثورة هم مجرد دمية بيد الولايات المتحدة، لا وطن لهم ولا ارادة، وما يحركهم هو "الشيطان الاكبر"، والشيطان لا يستحق سوى الرجم في عقيدة نصرالله.
- شعارات "الحرية والاستقلال واللاطائفية والعدالة الاجتماعية والحكم النزيه"، هي شعارات "طنانة"، لا معنى لها، والطنين في القاموس هو صوت الذباب، والذباب مقرف ومزعج ولا ينفع لشيء بل يجلب الامراض، ويجب ابعاده بشتى الوسائل.
يبدو نصرالله منزعجا فعلا من جماعة "17 تشرين"، وما قاله عنها، يشكل اهانة لجميع أفرادها، وانا من بينهم. هذه ليست المرة الأولى يظهر فيها نصرالله احتقاره لجزء كبير من شعبه. بدأ ذلك عندما وصف جمهور المقاومة بـ"اشرف الناس" مميزا اياهم عن الناس الآخرين في لبنان. وكان اعلن انه مكلف من الله، مشككا في المواصفات الانسانية للذين يسائلونه عما يقوم به وعن شرعية احتكاره قرار السلم والحرب، اي المواصفات الانسانية لمعظم شعبه.
ويترجم نصرالله اهانته لشعبه من خلال نظرته الى الانتخابات الرئاسية، فهو يريد رئيسا لهذا الشعب، على شاكلة عون ولحود، و"لا يُشرى ولا يباع"، وخياره اليوم يتأرجح بين فرنجية وباسيل، الذي يكرهه معظم اللبنانيين، والذي يمضي نهاراته ولياليه، وهويشتري ويبيع. فهل من دلالة اكبر على انه يحتقر شعبه ولا يبالي بإرادته؟
بت لا ادري فعلا اذا كان نصرالله يعتبر هذا الشعب شعبه. فما يهمه من مواصفات رئيس الجمهورية هو "ان يكون مطَمئِناً للمقاومة ولا يطعنها بالظهر". لا يهمه ما سيقدمه هذا الرئيس الى شعبه ووطنه، اي ان يكون مطَمئِناً لهما ولا يطعنهما في الصدر وفي الظهر كما فعل الرئيس السابق، الذي اختاره لهما نصرالله غصبا عن الارادة الفعلية لجميع الكتل النيابية.
لماذا يحتقر نصرالله جزءا كبيرا من شعبه؟ اكتفي بالرجوع إلى خطاب نصرالله الأخير نفسه، لتلمس أحد عناصر الجواب.
قال نصرالله عن الذين "أرادوا الخراب في لبنان في الـ2019 بعد فشل مشروع الحرب الأهلية"، انهم "لم يتركوا مقاماً لا لرئيس الجمهورية أو لرئيس مجلس النواب أو لعلماء و"كلن يعني كلن" فاسدين بينما القديسون هم زبائن السفارة الاميركية".
ها هو نصرالله يكشف في هذا المقطع عن أحد أسباب غضبه من هذا الشعب الذي انتفض في ١٧ تشرين: فقد مسّ بالمقامات، السياسية والدينية، وهذه هي الطامة الكبرى. لقد تجرأ جزء من الشعب على انتقاد أركان السلطة السياسية والدينية، نازعا عنها هالتها وقدسيتها، متهما إياها بالفساد. فكيف يمكن لنصر الله الذي يحمي هؤلاء الذين يحمونه بدورهم، أن يسكت عن ذلك؟ فلم يعد في الامكان الدفاع عن اي منجزات لهذه السلطة، التي أدت سياساتها إلى الانهيار على جميع الصعد، وخط الدفاع الوحيد المتبقي لنصرالله، هو مقاماتها، بمعناها الرمزي، فكيف تريدونه أن يتسامح مع الذين احتقروا هذه المقامات وشتموها، بعد ان سرقتهم وقتلتهم وتسببت بضياع وطنهم؟
لكن لماذا قرر نصرالله ان يصوّب مجددا على الانتفاضة مع ان حالتها بـ"الويل" هي ونوابها التغييريين، ولم تعد تشكل اي خطر على السلطة التي تحميه ويحميها؟ هل يحتاج لمن يتهِمُه بالعمالة لاميركا ردا على اتّهامِه هو بالقبول بوساطتها ورعايتها لترسيم الحدود مع اسرائيل، التي ادت عمليا الى مده هو والسلطة بمصادر تمويل هم في أمس الحاجة اليها للاستمرار بالهيمنة على شعبه؟ هل يحتاج الى عدو آخر غير إسرائيل بعد ان رسّم الحدود معها، وذلك لإبقاء التعبئة قائمة في اوساط جمهوره؟ ألهذا السبب حيّد اسرائيل في خطابه هذا؟ هل يعتقد ان بين الشعب من يزل يصدقه من خارج جمهوره؟ ام انه بات يخاطب جمهوره فقط، الذي اختلط عليه الامر نتيجة ترسيم الحدود مع العدو؟ وفي هذه الحالة، الا يؤدي تركيزه على جمهوره محاولا اقناعه ان جماعات الانتفاضة هي عميلة لاميركا، الى تحريضهم ضد جزء كبير من شعبهم وتشجيعهم على حرب اهلية مع "عملاء"؛ هذه الحرب التي لا يكف عن الادعاء انه يمنعها؟
ربما اصبح لزاما على نصرالله ان يكون اكثر صدقا مع نفسه ويعدّل بثلاثيته الذهبية. فبعد ان استهزأ بإرادة جزء كبير من شعبه، مستبدلا اياها بإرادة الولايات المتحدة الاميركية، تتحول ثلاثيته تلقائيا، من "شعب وجيش ومقاومة"، الى رباعية تقسم الشعب قسمين، "اشرف الناس" والولايات المتحدة الاميركية، فتصبح تاليا "اشرف الناس والشيطان الاكبر والجيش والمقاومة". وبعدما أُقصِي الجيش عن المفاوضات لصالح السلطة السياسية الفاسدة التابعة لحزبه، يمكننا القول ان الرباعية الحقيقية التي بات نصرالله يعتمد عليها هي "اشرف الناس، الشيطان الاكبر، السلطة السياسية الفاسدة والمقاومة".
كثرت الردود على ما قاله نصرالله من شخصيات تنتمي الى "17 تشرين"، واكثرها وضوحا ما جاء في تغريدة النائب ميشال دويهي: "لولا سلاح الحزب كنا انهينا كل المنظومة بأحزابها وبنوكها واعلامها ودولتها العميقة". الاهم قررت "قوى التغيير" ترجمة هذا القول في السياسة، بعيدا من متاهات "كلن يعني كلن" العشوائية، بدءاً من انتخابات رئاسة الجمهورية، مرورا بتأليف حكومة جديدة، وصولا الى تكوين معارضة تواجه سياسات الحزب وحلفائه، الحاليين او الذين سيلتحقون بهم نتيجة الضغوط او إغراء المحاصصة، في المواقع كما حصل في الازمات السابقة، وفي مصادر الغاز والنفط أيضا، هذه المرة. فعندما نحدد بجرأة وموضوعية، الطرف الاساسي الذي يعيق التغيير، يسهل علينا عندها تحديد اهداف التغيير ووجهة ومسار المواجهة.