غسان صليبي
يميل معظم اللبنانيين الى الاعتقاد أن أركان السلطة الحالية عقدوا صفقة تنازلوا فيها عن جزء من ثروتنا المائية. هؤلاء اللبنانيون لا يثقون أصلا بهذه السلطة، ولا يستبعدون ان تعمل ضد مصلحتهم بعد ان قتلتهم وسرقتهم وهي تعرّض بسياساتها الكيان اللبناني للضياع. دعونا قبل ان نحكم بالمطلق على سلوك هذه السلطة في مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية، نتوقف بشيء من التفصيل عند القواعد التي تعتمدها في هذه المفاوضات.
القاعدة الاولى: التنازل عن الحق
رفض رئيس الجمهورية ميشال عون توقيع تعديل المرسوم ٦٤٣٣ واعتماد الخط ٢٩ وارسال المرسوم إلى الأمم المتحدة. هذا الخط قد رسمته قيادة الجيش بالاستناد الى القانون الدولي وترسيمات سابقة وافقت عليها الامم المتحدة. بدوره اعتبر رئيس مجلس النواب نبيه بري أن الخط ٢٩ هو خط تفاوضي ووافقه نصرالله، كما توّج باسيل التنازل قبل يوم من وصول الوسيط الاميركي، مؤكداً أن لبنان سيضع الخط ٢٩ على طاولة المفاوضات اذا فشلت المفاوضات.
مواقف أركان السلطة جميعها، أساسها رفض اسرائيل التفاوض على الخط 29، مما أوقف المفاوضات سابقاً، وهذا ما صرح به عون لوفد النواب التغييريين الذي زاره مطالبا إياه بإعتماد الخط 29. بمعنى آخر أن موقف أركان السلطة هو في ترجمته العملية، رضوخ لإرادة إسرائيل.
من المسلّم به في علم التفاوض المدعّم بتجارب في الميادين كافة، أنه عليك تثبيت حقوقك قبل التفاوض عليها، حتى لو أدّت المفاوضات الى تقديم بعض التنازلات لاحقاً، التي ستكون أكبر بكثير لو دخلتَ الى المفاوضات دون تثبيتها.
القاعدة الثانية: التخلّي عن وسائل الضغط
لا تتقدّم أي مفاوضات من دون التهديد بإستخدام وسائل الضغط، القانونية أو العسكرية. بالإضافة الى التخلي عن الحق القانوني كوسيلة دولية للضغط على إسرائيل، جرى فصل المفاوض اللبناني عن وسائل الضغط الخاصة به والمتعلقة بسلطة الدولة، اولاً بإبعاد الجيش عن فريق التفاوض وبرفض ما اقترحه كخط للتفاوض، وثانياً بالإعتماد على "حزب الله" ليهدّد باللجوء إلى الضغط، اي عمليا الإعتماد على القرار الإيراني، الذي سيجعل التهديد بالضغط ورقة تفاوض مع إميركا واسرائيل، بما يخدم مصالحه هو، لا سيما في ظل تأزم مفاوضات النووي الإيراني، وتزايد الإعتداءات الإسرائيلية على إيران في سوريا.
القاعدة الثالثة: الدخول في المفاوضات في توقيت يناسب العدو ولا يناسب لبنان
فبدل أن تجيب السلطة على ما اقترحه عليها الوسيط الأميركي منذ أشهر وفي الوقت الذي تراه مناسبا لها، أهملت المسألة وتركت للعدو اختيار التوقيت من خلال فرض أمر واقع على السلطة، تمثل بوصول السفينة اليونانية التي ستتولى عملية الانتاج، مما اجبر السلطة على الإستنجاد على عجل بالوسيط الاميركي، جاعلة منه وسيطا موثوقا به، فيما هو غير حيادي وغير عادل لا بل منحاز لإسرائيل. هكذا يجد لبنان نفسه يدخل المفاوضات تحت الضغط وفي توقيت سيئ، وتحديدا في ظل حكومة تصريف أعمال. فهل هذا هو المطلوب؟
في موضوع التوقيت أيضا، من الملاحظ ان نصرالله هدد السفينة بعد وصولها الى حقل كاريش، مع انه كان يعلم بقدومها وأشار الى ذلك في خطاب سبق خطاب التهديد. من البديهي انه كان من الافضل تهديدها قبل وصولها، ولكان ذلك افعل واقل خطرا على لبنان. إذ أن تهديدها بعد وصولها وربطها بالغواصات الإسرائيلية يقحم إسرائيل مباشرة في الصدام إذا حصل، في ظل تشنج إقليمي مع إيران وكلام عن قرع طبول الحرب.
وإذا كانت حجة البعض بعدم الاعتراف بالخط 29 هو عدم إغضاب إسرائيل والدخول بحرب معها، فأيهما أفضل للبنان، إعلان إسرائيل الحرب عليه فيما هو يتمسك بحقه المعترف به دوليا، ام إعلان لبنان الحرب على إسرائيل بسبب انتاجها للنفط في منطقة متنازع عليها، وبدون ان يكون بيده ضمان قانوني؟ فهل هناك من يسعى في لبنان الى حجة للإنخراط في حرب، دوافعها الحقيقية إقليمية؟
القاعدة الرابعة: وضع كل الثقة في مفاوض واحد في غياب حكومة كاملة الصلاحيات
الرئيس عون يقود المفاوضات بحكم مسؤولياته الدستورية، لكن في ظل وجود حكومة تصريف أعمال. من الطبيعي تشكيك البعض في كفاءة الرئيس وقدرته على إدارة المفاوضات بما يخدم مصلحة لبنان العليا، بعد ان فشل في حكم البلاد التي وصلت الى الانهيار التام في عهده، وهو لا يحظى بثقة معظم شعبه، الذي من المفترض ان يكون الداعم الاول في هذا النوع من المفاوضات، وقد يتطلب الامر منه التعبير عن دعمه في الشارع. طمأننا نصرالله أن قضيتنا بأيادٍ أمينة، مذكرا بما قاله عون عندما كان يُطلب منه الموافقة على اتفاق الطائف: "يمكنكم أن تسحقوني لكنكم لن تأخذوا توقيعي". يمكن للبعض التنويه بهذا الموقف واعتباره ضمانا لحقوق لبنان، لكن جميع اللبنانيين يعرفون ان تطبيق هذا الموقف في السابق ادّى عمليا من جهة، إلى سحق الجيش السوري للبلاد وليس لعون، وإنقاذ عون ونفيه والاستغناء عن توقيعه، من جهة ثانية.
أترك للقارىء الاستنتاج إذا كان ما يجري هو نتيجة خيانة وطنية يرتكبها اركان السلطة، او مجرد حماقة وجهل في شروط التفاوض الناجح. في الحالتين، السلطة تمارس بصفاقة، الخيانة او الحماقة.
فور وصوله الى لبنان، اجتمع الوسيط الاميركي بمدير الامن العام. وإذ استغرب البعض بدء الوسيط الاميركي لقاءاته بالاجتماع بمسؤول أمني، وجد البعض الآخر في الحدث دلالة ان "الصفقة" حول ترسيم الحدود البحرية قد تمت بالفعل خلال زيارة اللواء إبراهيم الاخيرة لواشنطن.