سليمان العقيلي
كاتب سعودي
عندما أرسل المقيم السياسي البريطاني في الخليج "بيرسي كوكس" الممثل البريطاني في البحرين الكولونيل "ديكسون" لإقناع السلطان عبدالعزيز بحضور مؤتمر "العقير" في العام 1922 بهدف تحديد الحدود بين بلاده وكلٍّ من الكويت والعراق، وإرساء خريطة شمال الخليج، استجاب السلطان عبدالعزيز للدعوة، وحضر المؤتمر، لكنه اصطحب معه الميجور النيوزيلندي المولد، البريطانيّ الجنسية، "فرانك هولمز" ذا العلاقة مع الأميركيين. وكان البريطانيون، خاصّة ديكسون، يعتقدون بمعرفة هولمز بوجود احتمالات بتروليّة في الإحساء.
وفي ما بعد أصبح هولمز واحداً من شخصين (الآخر الأميركي تويتشل) كان لهما تأثير بالغ في العلاقة النفطيّة العتيدة بين السعودية والولايات المتحدة، وبالتالي الحضور الأميركي في الخليج.
كان هولمز يتجوّل في الجزيرة العربية منذ العام 1920 للبحث عن المعادن. وقد حصل في العام 1925 على امتياز للنفط من شيخ البحرين، ثم باعه لاحقاً لشركات أميركيّة بعدما رفضت الشركات البريطانية عرضه "لأن لدى بريطانيا ما يكفيها من نفط إيران والعراق".
وعند نهاية المؤتمر، أخبر السلطان عبدالعزيز بيرسي كوكس بأنه يفضل منح الميجور هولمز امتياز التنقيب عن البترول في الإحساء، فعلّق كوكس بالقول "واصل مسيرتك، ولكنّني أنبّهك إلى أن الرابطة الشرقية والعامة ليست شركة بترول، وسوف تبيع الامتياز للآخرين". وبالفعل، أثار منح عبد العزيز الامتياز للرابطة الشرقية والعامة التي يملكها هولمز ثائرة المسؤولين البريطانيين في الخليج لارتباط هولمز بالأميركيين.
وقد رأى السلطان عبد العزيز أن عرض هولمز أكثر إغراء من عرض شركة البترول الأنجلو – إيرانية، لأنّه لو باع امتيازه للشركات الأميركيّة فلن تكون فكرة سيّئة، فهي مستقلّة عن الحكومة الأميركيّة، ولا تمثّل خطراً سياسياً، فيما الشركات الإنكليزية حكوميّة ومرتبطة بالسياسات الاستعمارية، كما أن واشنطن في وقتها لم تكن دولة استعمارية ولا تتدخّل في الشؤون الداخلية للآخرين.
اليوم، وبعد مئة عام، يُعيد التاريخ نفسه، ويأتي الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السعودية في ظلّ تحوّلات في البيئتين الدولية والإقليمية، وفي جعبته قضايا النفط والسياسة والأمن الإقليمي ونظرة واشنطن تجاه ذلك كلّه. لكن الأوراق التي تملكها الولايات المتحدة ليست كثيرة، فالعلاقات السعودية - الأميركية تمرّ بفترة حرجة، والإيديولوجيا التي طبعت السياسة الأميركية في الفترة الأخيرة جعلت من علاقة دول الخليج مع واشنطن أمراً مكلفاً.
إن محاوريه في قمّة جدّة السعودية - الأميركية الملك سلمان المنغمس في التاريخ، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان المسكون بتحدّيات الجغرافيا السياسية يستحضران معاً ما استحضره الملك المؤسّس في عشرينيات القرن الماضي من فوائد العلائق مع القوى الدوليّة التي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للمملكة ولا تهدّد أمنها.
والرئيس بايدن، وهو سياسيّ مخضرم، يعرف من كثب أن بدايات صعود الدور الأميركي عالمياً كانت بعد انتصارات واشنطن وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، واقترنت بالنفوذ الأميركي على منابع النفط في الخليج أيضاً.
بعد الاكتفاء الذاتي من النفط الصخريّ وبروز التحدّي الصينيّ، استدارت السياسة الخارجية الأميركية نحو جنوب شرق آسيا، وأظهرت عقيدة أوباما ميلاً للانسحاب المتدرّج والجزئيّ من الخليج، والتخلّي عن الحلفاء التقليديين فيها، والتقرّب من إيران، ممّا أفقد واشنطن مصداقيتها لدى الحلفاء، ودفعهم إلى التقارب مع القوى الشرقية، خاصّة موسكو وبكين اللتين تبديان حذراً دائماً من الانغماس في الشؤون الداخليّة للشركاء.
وما من شك في أنّ حرب أوكرانيا قد قلبت كثيراً من حسابات الولايات المتحدة ، فبدلاً من أن يكون الوحل الأوكراني ساحة إنهاك للقوة الروسية، أصبح مصدراً للمتاعب الأميركيّة؛ فظهرت أزمات في الغذاء والطاقة ضربت أرقاماً عالية جداً بسبب انعكاسات الحرب والمخاوف من انقطاع الإمدادات الروسية، وتسبّبت بتراجع شعبيّة ساكن البيت الأبيض داخلياً؛ وحلفاء واشنطن في الخليج عزفوا عن الانخراط في المواجهة الأميركية لروسيا في أوروبا، وأظهروا قدراً من الحياد لم يكن موجوداً في زمن الحرب الباردة؛ والأمران كلاهما أزعجا واشنطن.
هذه الظاهرة الخليجية الجديدة في مسار العلاقات الخليجية - الأميركية ناجمة عن أسباب موضوعيّة تتعلّق بالانسحاب الأميركي من رعاية أمن الخليج، ممّا أفقدها التأثير والنفوذ في القرار الخليجيّ .
وعندما يحلّ بايدن اليوم في جدّة سيطرح على القيادة السعودية والقادة الخليجيين والعرب ثلاث قضايا رئيسيّة، أولاها رفع إنتاج وتصدير النفط، والثانية أزمة أوكرانيا والحياد العربي، والثالثة ترتيبات أمنية إقليميّة قد لا تكون محلّ إجماع.
ويُعتقد على نطاق واسع في الخليج أن الرئيس بايدن لن يحصل على إجابات قبل أن يشرح طبيعة الدور الأميركيّ تُجاه التحدّيات الماثلة في المنطقة، وتُجاه ما ستقدّمه واشنطن في ظلّ التهديدات الأمنية للأمن والاستقرار الإقليميين؛ فالنفوذ الأميركي في المنطقة تراجع كثيراً بسبب تراجع الدور الأميركي في رعاية النظام الأمني في الخليج.
وواشنطن التي قرّرت مواجهة الصين في جنوب وشرق آسيا، ومواجهة روسيا في شرق أوروبا، لا تستطيع ضمان نفوذها في الشرق الأوسط حيث تحفر كلّ من بكين وموسكو بصبر وتؤدة في رمالها المتحركة.
لقد شكّلت السعودية ومصر وحلفاء واشنطن الآخرين في الشرق الأوسط دوراً مهمّاً في الحزام الأخضر أمام الاتحاد السوفياتي، ودرعاً مانعةً لوصوله إلى المياه الدافئة في عهد الحرب الباردة. وأمام توقّعات باندلاع أزمات دولية في مناطق جغرافية عديدة، وبعودة الحرب الباردة، لن تكون بلدان الشرق الأوسط دروعاً ولا مخالب لأحد.
ليس بيد الرئيس الأميركي أوراق إغراء كثيرة ليجتذب بها حلفاء واشنطن التقليديين المشكّكين في مصداقيّة السياسة الأميركيّة، التي لا تريد أن تبذل أيّ جهد يذكر لصيانة أمن المنطقة، بل تريد بيع هذا الدور من دون أيّ ثمن إلى إسرائيل المشكوك في عزمها على مواجهة إيران.
وفي مقابل وعود متوقّعة بالاستثمار واستئناف مبيعات الأسلحة الأميركية، يمكن للرياض وأشقائها أن يعِدوا واشنطن بالسّعي لتحسين الاتفاقية الجديدة لتحالف "أوبك بلس"، التي تبدأ في سبتمبر المقبل بشأن زيادة محدّدة في الإنتاج، من دون أن يقدّموا أيّة تنازلات بشأن قراراتهم السياديّة تجاه النزاعات الدوليّة أو تحالفاتهم النفطيّة.
وفيما يبدو أن بايدن يقوم بمهمّة عسيرة إلى الشرق الأوسط التي لا يتذكّر فيها سوى إسرائيل وأمنها وتطبيعها مع جيرانها العرب، ولا يذكر أن فيها مدناً مقدّسة وحجّاجاً ونفطاً وغازاً ومضائق وممرات بحريّة استراتيجية وخطوط صدع خطيرة منتجة للأزمات الجيوسياسية،
سيتذكّر المراقبون أن الشرق الأوسط سيكون المرآة الأولى لتوازنات القوى الدولية الجديدة كما كان في النصف الأول من القرن العشرين .