النهار

الجشع التضخّمي لبناني وعالمي
الانهيار (حسام شبارو).
A+   A-
الدكتور باسم البواب*
 
لا شك في أن شروع الدول في تخفيف إجراءات الحظر والإغلاق، ورفع القيود ومعاودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً في كافة المجالات وإعادة فتح المصانع والشركات بدءاً من النصف الثاني من العام 2021، يؤدي إلى إعادة الحياة إلى ما يشبه وتيرتها الطبيعية. فالمزاج العام يتسم بالتفاؤل نسبياً، فيما بدأ العالم يشعر بزيادة الطلب على السلع والمنتجات والخدمات بشكل كبير.
 
ولا بد من التوقف عند عامل أساسي حيوي لفهم ارتفاع الطلب والأسعار:
 
إن تفشّي وباء كورونا وحجر العالم في منازلهم لفترة زمنية طويلة، ساهما في ازدياد مدّخرات الأفراد خلال هذه الفترة، كما ساهم اتفاق المصارف المركزية على ضخ سيولة نقدية كبيرة لتهدئة أسواق المال العالمية ودفعها نحو الاستقرار بزيادة السيولة في الأسواق، ما أدى إلى خلق قدرة شرائية أدت ساهمت بزيادة سريعة وكبيرة في الطلب على السلع والخدمات والمنتجات، فيما سلاسل الإمدادت لم تعد إلى قدرتها الإنتاجة بعد تعطّلها على مدى سنتين.
واقعان أساسيان دفعا باتجاه ازدياد الأسعار تدريجياً وسريعاً.
 
الحرب الروسية الأوكرانية المستجدة في شتاء 2022 شكلت عاملاً إضافياً للضغط على الأسعار التي تسارعت وتيرة ارتفاعها خاصةً أسعار المواد الأولية، النفط، الغاز، والمعادن (أسعار الغاز ارتفعت 330% منذ عام 2020 ولغاية عام 2022).
 
في أساسيات السوق، زيادة العرض والطلب على المنتجات والسلع في الأسواق من جانب المستهلكين تؤثر مباشرة على الأسعار، ومن المعلوم أنه في بعض الأحيان يرتفع الاستهلاك فيزيد الطلب وترتفع الأسعار، وفي أحيانٍ أخرى، يتراجع الطلب فتتراحع الأسعار.
 
ولكن وبالرغم من أن أساسيات السوق في العام 2022 تشير إلى زيادة الأسعار، إلا أن الارتفاع الكبير والفاحش الذي يشهده العالم حاليًا هو غير طبيعي وغير منطقي.
 
وكمثال على خروج الأسعار عن منطق السيطرة، عمد بعض شركات الشحن وشركات الطيران وشركات المواد الأولية من نفط وغاز وشركات المواد الغذائية إلى زيادة أسعارها خمسة أضعاف وحتى أكثر في بعض الأحيان، لتحصد أرباحاً تساوي ما قد تجنيه الشركة على مدى 20 عاماً، حيث إن العديد من التجار والصناعيين وأصحاب الشركات مارسوا جشعهم مستفيدين من عدم الاستقرار في الإمدادت، ومن المخاطر الناتجة عن الحروب ورغبتها في تحقيق أرباح مالية عالية.
 
واقع اقتصادي جديد يحتم وصفه بمصطلح Greedflation أو "الجشع التضخمي"، وسببه زيادة الأسعار بناءً على تفلت وجشع التجار لجني أرباح عالية على حساب المستهلكين للسلع والمنتجات والخدمات عن طريق احتكار أسعار سلعة أو منتج أو خدمة والتحكم بسعرها نتيجة تقليل المعروض بمواجهة ارتفاع الطلب حيث يحاصر المستهلك الذي يصبح مجبراً على دفع أسعار مرتفعة للحصول على سلعته أو المنتج الذي يحتاجه.
 
اجتماعياً يخلق  Greedflation أزمة اجتماعية كبيرة عبر زيادة الهوة بين الطبقات، حيث تتأثر بشكل كبير الطبقة الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود والثابت، فيما تزداد ثروات الطبقة الغنية التي عادة ما تكون مسيطرة على الإنتاج.
 
وكما في العالم، كذلك في لبنان...
 
لم يسلم لبنان من Greedflation وهو الأرض الخصبة للتفلت من المحاسبة والمراقبة في ظل ضعف المؤسسات الرقابية عادة وتأثير الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية وتفلت سعر الصرف، ما أرسى فوضى شاملة في التسعير دفعت بمستويات التضخم لتكون بين الأعلى عالمياً.
 
والجشع ليس بغريب عن أفرقاء الإنتاج في لبنان، وهنا لا نشمل الجميع ولا نجزم، ولكن ما بين الأزمة العالمية والأزمة الداخلية استفحل الجشع في لبنان وسجلت  Greedflation مستوياتٍ قياسية تكاد تكون الأعلى عالمياً.
 
ولكن ما لا يعلمه هؤلاء الجشعون أن هذه السياسة هي قصيرة المدى، فمهما حاولوا الاستفادة منها للتعويض عن الخسائر التي تكبدوها منذ بداية الأزمة أو لتحقيق أرباح استثنائية، إلا أن الاستمرار بالتحكم بالأسعار واستغلال المستهلك خاصةً في الأزمات الصعبة التي تواجه بلدان العالم سيؤدي حتماً إلى نتائج عكسية ترتد سلباً مرة جديدة على أعمالهم.
 
فارتفاع الأسعار سيخفض الطلب لأن المستهلك سوف يلجأ إلى البدائل أو الحد من الاستهلاك بما يتناسب مع مدخوله وإمكانياته فيعود الإنتاج ليفوق الطلب وتتراجع الأسعار.
 
ظاهرة Greedflation واقع قد يطبع المرحلة الحالية ليضاف إلى الاقتصاد العالمي مصطلحاً جديداً تفرضه أزمات غير تقليدية.
 
*أستاذ محاضر بالاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium