استعرض وجيه كوثراني في كتيب عنوانه "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتابات تاريخية لبنانية"، علاقة الطوائف بالدولة اللبنانية، مظهراً تأثرها بإيديولوجيات نبعت من التيارات الفكرية الفاعلة في التاريخ العربي المعاصر. لكنني سأكتفي هنا باستعراض مقولات كمال الصليبي.
صدر هذا الكتيب في العام 2014، أي قبل أن توصلنا سياسات الممسكين بزمام الطوائف والدولة إلى جهنم.
كان السؤال في لبنان دائماً: كيف نصلح هذه الدولة وكيف نبني وطناً، يعلي فيه المواطن انتماءه لوطنه ودولته وجنسيته، التي بالمناسبة نسميها "تذكرة هوية"، والقصد من التسمية جعلها تذكرة سفر وولاء إلى الدولة اللبنانية، لتغليبها على الولاءات الهوياتية الأخرى. لكن تلك السياسات عمّقت ارتباط اللبناني بهويته الطائفية والمذهبية وأضعفت هويته الوطنية وولاءه للدولة!!
من المسلّم به أن اللبنانين طالما اختلفوا على تاريخهم، لاختلافهم على فكرة الدولة اللبنانية والانتماء إليها. كان الحل قوننة الميثاق الوطني، لا شرق ولا غرب، بنص دستوري ملزم: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه وهو عربي الهوية والانتماء". ولم يطبّق.
كان الصراع على من هو أحق بحكم لبنان والتحكّم بأبنائه. مرة بالاستناد إلى أسبقية وجوده على هذه الأرض - في منافسة جلية للفكر الصهيوني عندما برر احتلاله لفلسطين - ومرة لأنه سبب وجوده، ومرة أخرى لأنه ملجأ للمضطهدين. لكن ولا مرة من باب الدفاع عنه كـ"وطن" للجميع بالتساوي. فالكتابة التاريخية استهدفت غالباً كتابة تاريخ لدولة تتلاءم أو تعبر عن مصالح أو إيديولوجيا الطرف المؤرخ.
اختار كوثراني نقاش كمال الصليبي لتمتّعه بأخلاقية مهنية وبصدقية عالية ويعتمد منهجاً تاريخياً علمي.اً
عالج الصليبي مسألتين رئيسيتين:
المسألة الأولى: مرجعية فخر الدين والإمارة اللبنانية. طرح السؤال الإشكالي التالي: هل لهذه الإمارة ميزة أو ميزات تجعلها ذات خصوصيات، تبرر القول بأنها كانت الصيغة التاريخية، أو النواة، المؤسسة أو الممهدة للدولة اللبنانية الحديثة؟ وأن بطلها فخر الدين المعني؟
توصل كمال الصليبي، عبر منهجه التجريبي، إلى أنه لا يرى أساساً لهذه الخصوصية.
المسألة الثانية: كيف يتصور اللبنانيون ماضيهم؟ هل يصلح هذا التصور، وهو غالباً تصور طوائف لماضيها، أساساً لبناء لبنان جديد؟
بالنسبة لفخر الدين، هو رسمياً ملتزم بجباية الضرائب لا غير في المناطق التي يسيطر عليها. لكن مكانته كانت تختلف من منطقة إلى أخرى. كان له في الشوف حكم تقليدي موروث مستقل عن الالتزام الرسمي المرتبط بالدولة، وكان لفخر الدين في كسروان تبعية تلقائية بين الموارنة. أما خارج تلك المناطق فكانت سيطرة فخر الدين مجرد التزام من الدولة العثمانية تدعمه قوة الأمير العسكرية.
لكن هذا التوصيف لا يمنع من إعادة الاعتبار لفكرة فخر الدين كأسطورة (mythe) لها دورها في أسطرة التكوّن التاريخي للبنان الحديث. بدأت هذه الأسطورة صغيرة ثم نمت مع نمو لبنان حتى أصبح فخر الدين اليوم رائد الاستقلال اللبناني ورمز الوحدة.
المشكلة، كما يقر الصليبي، أن هذه الأسطورة لا يُجمع عليها اللبنانيون كصورة وطنية جامعة أو تاريخ وطني جامع. حاول معرفة كيف يتصور اللبنانيون ماضيهم في كتابه: "بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع". تتلخص وجهة نظره بالتالي:
لا يمكن لطائفة أن تفرض نظرتها إلى تاريخ لبنان على الطوائف الأخرى، وبعد أن يستعرض 3 تجارب طائفية فشلت في كتابة تاريخ مدرسي، يخلص إلى أنه لا بد من حملة تنظيف عامة في بيوت العناكب المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية المختلفة في البلاد لازالة جميع الأحكام المسبقة والأحكام المسبقة المضادة المتعلقة بماضي لبنان وماضي العرب؛ أكان من وجهة نظر القومية العربية الدمجية أم من وجهة نظر القومية اللبنانية التي تسعى إلى الخصوصية، أو في البحث في الفينيقية أو الإمارة أو نظرية الملجأ.
لا يمكن بناء تاريخ وطن - دولة على تاريخ سياسي مختلف عليه. لا بد من الإقرار والاعتراف بهذا الاختلاف على قاعدة البحث التاريخي الموصل إلى حقائق تاريخية وإن كانت هذه الحقائق لا تحمل معاني الوحدة الوطنية.
وبناء عليه يطرح الصليبي على اللبنانيين – كجماعة سياسية – المهمة التالية: "عليهم أن يعرفوا بدقة لماذا هم لبنانيون وكيف أصبحوا لبنانيين، وهم لم يكونوا في الأصل إلا مجموعة من الطوائف المتفرقة صودف تواجدها في بقعة واحدة من الأرض. وإن لم يفعلوا ذلك – بغض النظر عن الطريقة التي ستصلح الشجار الحالي في لبنان – فإنهم سيستمرون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتنافرة، تسمي نفسها عائلات روحية دون أن يكون لها أية علاقة بالروحانيات.
السؤال المغفل أو المسكوت عنه في هذا المشروع، بحسب كوثراني، هو التالي: ما هي شروط "الحاضر" التي تمكّن من تصحيح الأحكام المسبقة للوصول إلى المعرفة الدقيقة، أي "العلمية" والتي يطلبها الصليبي؟
هل يطلبها منهم كطوائف أو كأفراد ومواطنين؟ أو كمؤرخين ذوي اختصاص؟ وفي الحالة الأخيرة ما العمل إذا اختلفت المدارس والمناهج والمفاهيم بين المؤرخين أنفسهم؟
عندما يدعو الصليبي اللبنانيين بالجمع، لتنظيف بيوتهم من "العناكب"، أي من التشوهات التي أدخلتها الطوائف على تواريخها، فإنه لا يفرّق في الدعوة بين "لبنانيين" يفترض مبدئياً أنهم مواطنون، وبين "طوائف" يفترض مبدئياً أيضاً أنها جماعات دينية أو إثنية وليست جماعات سياسة أو أحزاباً.
هل يوجّه الدعوة، إلى المواطنين أم إلى "الطوائف"؟ وبأية صفة، بالصفة الدينية – المذهبية أم بالصفة السياسية؟
يبدو أن كمال الصليبي يتوجه إلى الطوائف كجماعات، مازجاً بين خصوصياتها الدينية والمذهبية وتطلعاتها السياسية، فيصبح التنظيف المطلوب يقوم على معادلة ميثاقية (أيضاً): عروبة تهدئ من غلوّها القومي الدمجي، ولبنانية تحد من المبالغة في تمجيد خصوصياتها ذات الطابع الطائفي – المسيحي.
لكن التماثل ما بين التوافق السياسي والتوافق التاريخي، بل وجعل "التوافق التاريخي" شرطاً للتوافق السياسي، يغفل عدداً من المعطيات والحقائق المغفلة، هناك فرق بين الطوائف ذات الخصوصيات الدينية والمذهبية من جهة، وبين الطائفيات السياسية من جهة ثانية؛ فهذه الأخيرة تتجسد زعامات وأحزاباً ومؤسسات وسياسات من شأنها تحويل الطائفة من حالة دينية ومذهبية وثقافية إلى حالة كيان سياسي. ناهيك عن الفرق بين الذاكرة التاريخية الجماعية والمعرفة التاريخية. فالذاكرة الجماعية عفوية وأسطورية بطبيعتها وخالطة للأزمنة، بل وهي مخزن نفسي جماعي منقص للأخبار والصور أحياناً أو مضيف إليها أحياناً أخرى، مزين أو مشوه... وكلها تنشأ عبر الزمن، وبفعل وطأة الحدث الراهن واستفزازاته وتحدياته التي لا تكتفي بأن يكون البشر فاعلين في الحاضر، بل مغيّرين أيضاً للماضي، أكان باتجاه تقبيحه أو تحسينه، تثويره أم تهيئته بحسب الصراع بين القوى التي تستغل الهويات المختلفة.
ما يتجنبه الصليبي: من هو المسؤول عن التجهيل والتشويه وبناء بيوت العنكبوت، أو إدخالها إلى بيوت اللبنانيين؟ أهو لاهوت الطوائف وعلم الكلام وفقهها؟ أم سياسيوها، ومن هم؟
أليس المسؤول النظام السياسي المهيمن وأشكال معينة من ممارسة السلطة وتوزيع الثروة وسياسات زبونية محددة في الاقتصاد والتنمية والتعليم توزيع الثروة...
الهرم مقلوب هنا على رأسه. فما ينبغي تنظيفه ليس بيوت الطوائف (او تواريخها) ليستقيم أمر الدولة – الوطن، بل تنظيف السياسات أولاً بالبرامج والخطط لبناء دولة – وطن، وتنشئة مواطن منفتح ومتفهم لخصوصيات الطوائف الدينية وذاكرتها التاريخية.
وحتى العام 1970، وعند عزوف الرئيس شهاب عن إعادة ترشّحه للرئاسة، لم يكن قد حصل أي تقدم في مسيرة إرساء دولة المواطنية الرشيدة، وهذا كان من أسباب عزوفه وكتب في رسالته:
إن المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي، لم تعد في اعتقادي تشكل أداة صالحة للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه السبعينيات في جميع الميادين، وذلك أن مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فعالية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني. إن الغاية من هذا العمل الجدي هو الوصول إلى تركيز ديموقراطية برلمانية أصيلة صحيحة ومستقرة، وإلى إلغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في إطار اقتصادي حر سليم، يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الإفادة من عطاءات الديموقراطية الاقتصادية الاجتماعية الحق.
إن الاتصالات العديدة التي أجريتها والدراسات التي قمت بها عززت قناعتي، بأن البلاد ليست مهيأة بعد، ولا معدة لتقبل تحولات لا يمكنني تصور اعتمادها إلا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية التي طالما تمسكت بها.
مارس سياسيّونا كل الألاعيب لتأجيج الصراعات الطائفية تأميناً لهيمنتهم على أبناء طوائفهم، تحت شعار حمايتهم. وما حفظهم في مراكزهم وأمن مكاسبهم، خضوعهم لمختلف الاحتلالات.
نُشر أيضاً في موقع "الحرة"