شهدت الأيام القليلة الأخيرة على موجة من الآراء التي صدرت من واشنطن ردًا على القرار الذي اتخذه تحالف الدول المنتجة للنفط "أوبك بلاس" بخفض إنتاجه النفطي بمقدار مليوني برميل يوميًا ابتداءً من شهر تشرين الثاني. وتوصلنا طبيعة هذه الآراء – التي تتراوح بين افتراضات مهينة لذكاء الفرد ومجرّد معلومات غير دقيقة – للاستنتاج بشكل حتمي أنه بات من الصعب جدًا أخذ أي شيء يقوله أي مسؤول أميركي حول هذه المسألة على محمل الجدّ.
وبحسب ما صرّح به المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، فإن نظرة السعودية لهذه الأحداث – والتي أوضحتها وزارة الخارجية بشكل مثير للإعجاب في بيان أصدرته يوم الخميس، حيث قالت إن التحالف قد اتخذ قرار خفض إنتاج النفط بالإجماع كونه يصبّ في مصلحة استقرار أسواق الطاقة العالمية – ليست أكثر من "محاولة تضليل"، إلّا أن كلّ "محاولات التضليل" تصدر في الواقع عن واشنطن التي تعيش منذ فترة فورة تناقض ذاتي محرجة.
فعلى الرغم مثلًا من كلّ الخطابات الغاضبة التي أدلى بها المشرّعون الديمقراطيون الذين افترضوا أن السعودية قد تراجعت عن الالتزامات التي قدّمتها إلى الرئيس جو بايدن في ما يخصّ أسعار النفط، صرّح الرئيس نفسه إلى شبكة "سي إن إن" (CNN) يوم الأربعاء الماضي موضحًا أن مسألة النفط، في الحقيقة، لم تُناقش خلال الزيارة التي خصّ بها السعودية في شهر تموز، حيث تركّز النقاش حينها أكثر على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة بأكملها.
وبالإضافة إلى ذلك، كشف سيناتور ولاية أركنساس الجمهوري توم كوتون أن البيت الأبيض لم يكن لديه، بشكل عام، أي اعتراض على خفض إنتاج النفط – إلّا أنه أراد تأخير الإعلان عن القرار لكي لا يؤثّر على الانتخابات النصفية الأميركية والتي ستُقام في شهر تشرين الثاني. وقد أكدّ بيان وزارة الخارجية السعودية هذا الموضوع بشكل غير مباشر، إذ أشار إلى أن الولايات المتحدة قد استُشيرت بشأن القرار وقد طلبت تأجيله لمدّة شهر، لا إلغاءه.
وبالتالي، بات من الواضح أننا أمام وضع يُعطي فيه الحزب الديمقراطي الأولويّة لمصالحه الخاصّة، مقدّمًا إياها تحت غطاء التعبير عن قلقه إزاء كلّ من أوكرانيا والاقتصاد العالمي. وإن كان ذلك لا يُعتبر محاولة تضليل، فأنا لا أعرف ما قد يُعتبر كذلك.
وعلى الرغم من إصدارهم تحذيرات خطيرة إزاء قرار أوبك بلاس، معتبرين أنه "ما من معنى اقتصادي له" – وبعبارة أخرى، أن أسعار النفط ستحلّق – إلّا أن ما حصل في الواقع هو العكس تمامًا.
ولكن الأمر الذي يفتقر حقًا إلى أي معنى اقتصادي فهو قول بايدن، خلال مقابلته مع شبكة "سي إن إن" (CNN)، أنه لا يتوقّع حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة. فلعلّ الرئيس أعلم من أكثر من 70 في المائة من علماء الاقتصاد الأكاديميين الذين شاركوا في استطلاع صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) والذين يعتقدون أن اقتصاد الولايات المتحدة سيشهد ركودًا العام القادم.
أمّا "محاولة التضليل" الحقيقية فتكمن في الجزم بأن السعودية، وعبر خفض إنتاجها للنفط، تدعم بطريقة ما روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا. حقًا؟ يقولون ذلك عن السعودية نفسها التي صوّتت يوم الأربعاء في الأمم المتحدة لإدانة قرار روسيا بضمّ أراضٍ أوكرانية في منطقة الدونباس؟ يقولون ذلك عن السعودية نفسها التي شكرها السفير الأوكراني على موقفها القائم على المبادئ الحسنة؟ يقولون ذلك عن السعودية نفسها التي شكرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي – في مقابلة أجراها مع هذه الصحيفة بالذات – على تأديتها دور الوسيط في عمليّة تبادل للأسرى؟
وفي نهاية المطاف، إذا ما أراد بايدن وغيره من السياسيين الأميركيين القول إن السعودية تخدم مصالحها الخاصة أو إن تحالف أوبك بلاس يخدم مصالح أسواق النفط العالمية، فهذا ليس باتّهام – بل هو مديح. فبذلك تكون المملكة ومعها التحالف النفطي يؤدّيان عملهما فحسب.
أمّا ما لا يُعتبر جزءًا من وظيفتهما فهو مساعدة حزب سياسي أميركي معيّن ليفوز بالانتخابات، وذلك على حساب استقرار أسواق النفط العالمية. فالفوضى لن تعمّ إذا ما تغيّرت موازين القوى السياسيّة في أي من مجلسي الكونغرس الأميركي، إلّا أن تأثير فقداننا السيطرة على أسواق الطاقة قد يكون فظيعًا بالفعل.
* رئيس تحرير "عرب نيوز"