هل حقاً قررت القيادة السعودية، أخيراً، التمرّد على أميركا؟
يبدو السؤال جديداً ومدهشاً لغير المتابعين للشأن السعوديّ الممتد لثلاثة قرون. أمّا العارفون، فيتذكّرون أن القاعدة في البيت السعودي هي الدفاع عن السيادة والمصالح الوطنية والعربية والثوابت الدينية.
فتوحيد الجزيرة العربية على يد الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التجديدية التي انتشرت في العالم الإسلامي، شكلا نجاحاً أثار قلق القوى الكبرى في ذلك الوقت. ردّ المستعمر الأوروبي من خلال مواليه ومنابره في المناطق الإسلامية، وتحرك العثمانيون من خلال ولاتهم وحلفائهم العرب، فكرياً وعسكرياً، لمواجهة الدعوة والقضاء على الدولة الحاضنة. نجح الخصوم أحياناً، وفشلوا مراراً؛ فالدولة نهضت مرّة بعد أخرى، حتى بلغنا الدولة السعودية الثالثة.
بين الشريك والصديق
إلا أن المواجهة لم تكن هي الأسلوب الوحيد الذي اتّبعه أئمة وملوك السعودية. فالتصالح مع الجوار، والتحالف مع الكبار، كان الخيار الأول. وبالرغم من تقلّبات العلاقات البينيّة مع الأشقاء والشركاء، تمكنت القيادة السعودية في مختلف عصورها من تحسين العلاقة بعد كلّ انتكاسة مع الجيران، كمصر إيران وتركيا والعراق واليمن؛ ومع القوى الخارجية، كالولايات المتحدة وبريطانيا والصين وروسيا.
على أن قوة الصّلات تأرجحت وتمايزت، حسب دولاب المصالح. فبعد الحرب العالمية الثانية، اختار مؤسّس الدولة الثالثة، الملك عبد العزيز، توثيقها مع القوة الصاعدة، الولايات المتحدة، لتتقدّم بذلك على القوى النازلة، كبريطانيا. وقال لمستشاريه، عندما سئل عن ذلك: الولايات المتحدة شريك، وبريطانيا صديق، والشريك يتقدّم دوماً على الصديق.
مضيق الألفيّة الثانية
المشهد اليوم لا يختلف عن البارحة، فسفينة العلاقات السعودية - الأميركية صمدت ثمانين عاماً، وتجاوزت خلافات أشدّ حول القضايا العربية، خاصّة القضية الفلسطينية، قادت إلى مقاطعة نفطية مرتين، الأولى بعد العدوان الثلاثي على مصر، في العام 1956، والثانية بعد حرب رمضان 1973.
والسفينة اليوم تمرّ بمضيق بدأ منذ بداية الألفية الثانية، إثر العدوان الإسرائيلي على جنين، وهجمات سبتمبر، ثمّ مشاريع "التقسيم" و"الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الكبير" في عهد الرئيس الجمهوري، جورج بوش الابن؛ ثم "الربيع العربي" و"الاتفاق النووي"، في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما؛ وانتهاءً بـ"شيطنة "القيادة السعودية في السنوات الأولى للنسخة الحالية من العهد"الأوبامي".
الموقف اليساري
قد تعتقد بعض النخب الأميركية، خاصّة اليسارية منها، أن المملكة قررت معاقبة الإدارة الأميركية، بدفع تحالف أوبك بلاس لخفض الإنتاج مليوني برميل يومياً، رفعاً للأسعار، وتأثيراً على الناخب الأميركي في الانتخابات النصفية للكونغرس، في شهر نوفمبر المقبل.
وقد تعمل القيادة الديموقراطية من خلال الجهات التشريعية على إحياء قانون "نوباك" لمعاقبة أعضاء تحالف أوبك، الذي أسقطته الإدارات الأميركية المتعاقبة، الديموقراطية والجمهورية، لتداعياته السلبية على سوق الطاقة العالمية، وعلى الشركات النفطية الأميركية. وقد تشتد الحملات الإعلامية والدبلوماسية والقضائية، التي هدأت نوعاً ما، ضد الحكومة السعودية. وقد تطالب بعقوبات عليها، مثل منع بيع قطع غيار الطائرات والمعدات العسكرية، وسحب القوات الأميركية من منطقة الخليج العربي، وإحياء الاتفاق النووي وتحسين العلاقات مع إيران، بأيّ ثمن.
الموقف اليميني
في المقابل، سيستغلّ الجمهوريون الظرف فيحمّلون الإدارات الديموقراطية المتوالية مسؤولية تعطيل عمليات التنقيب والإنتاج والتكرير لمنتجات الطاقة الأحفورية، بدعوى حماية المناخ والبيئة، واستبدالها بمشاريع الطاقة المتجدّدة والمستدامة التي لم تبلغ الحلم بعد. وبتحويل الولايات المتحدة من منتج مصدر للنفط إلى مستورد له، تخضع لتقلّباته السعريّة، ويُطالبون بتحسين العلاقات مع الحليف السعودي وتوثيقها مع القيادة السعودية لضمان أمن المنطقة العربية، ومحاربة الإرهاب، واستقرار سوق الطاقة، ولضمان المشاركة في مشاريعها التنموية، وتحاشي دفعها بإتجاه الشرق، الصين وروسيا والهند.
المصالح الأميركية
إلا أن المُغيّب في هذا الجدل أن الخزينة الأميركية هي أكبر مستفيد من الوضع الحالي. فزيادة أسعار الطاقة تعني مكاسبَ إضافية لمنتجي النفط الخام والغاز الطبيعي، وأرباحاً هائلة للمصافي وشبكة النقل ومحطات الوقود.
كما يعني ذلك مضاعفة دخل الحكومة الفيدرالية، وكلّ ولاية من الضرائب، وأكثر عندما نضيف أسعار الغاز المسال الذي يباع بأربع أضعاف سعره قبل الأزمة للمستهلك الأوروبي، وفق ما شكا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون؛ وستة أضعاف، وفق ما أعلنت الحكومة الألمانية. ولا ننسى مصالح شركات النفط الأميركية الدولية وأساطيل النقل البحرية، وشركات التأمين والبنوك وغيرهم من المستفيدين بشكل مباشر من ارتفاع الأسعار.
النفاق الغربي
يتجلّى النفاق الأميركي أكثر عندما نستذكر موقفهم عندما هبطت أسعار النفط إلى ما دون الصفر خلال أزمة كورونا، وتأرجحت بين عشرين وثلاثين دولاراً للبرميل بعد ذلك. حينها، قام الرئيس دونالد ترامب بالتواصل الشخصيّ مع القيادتين الروسية والسعودية لإيقاف حرب الأسعار، وتخفيض الإنتاج؛ وتجاوز موقف أميركا العدائي لأوبك، فدفع تحالف المنتجين الأميركيين، وشجّع المنتجين الأوروبيين على التعاون مع أوبك بلاس. وسرّ ذلك أن تكلفة إنتاج النفط الصخري تزيد عن أربعين دولاراً (مقارنة بثلاثة إلى ستة دولارات للبرميل السعودي)، وتصل إلى ضعف ذلك في بعض المناطق؛ وانهيار الأسعار يؤدّي إلى إفلاسها وخروجها من السوق، وعزوف المستثمرين والبنوك عن تمويل المشاريع الجديدة.
ونشهد اليوم نفاقاً مماثلاً من نفس الإدارات اليسارية في أميركا الشمالية وأوروبا، التي صدعت رؤوسنا بمخاطر الوقود الأحفوري، وطالب بايدن السعودية بخفض الإنتاج واتّهمها بتلويث المناخ، ثمّ ها هي الحكومات نفسها تطالبنا برفعه وتشجّع استخراج الفحم الحجري الأخطر بمراحل على البيئة والمناخ.
أولوية المصلحة
السياسة تقوم على المصالح الدائمة، لا العداوة الدائمة ولا الصداقة الدائمة؛ وما الشعارات البراقة إلا وسيلة لتمرير الأجندات الخفيّة التي تؤمن حماية المصالح وتعظيم المنافع. فضريبة الكربون على مشتقات النفط التي قصمت ظهر المستهلك الغربي تذهب لخزائن حكومته، فيما يُلقى اللوم على الدول المنتجة. وخصوم الأمس يتحولون إلى أصدقاء اليوم، عندما أدّت مقاطعة الطاقة الروسية إلى اللجوء لمنتجات دول الخليج العربي وأميركا الجنوبية وشمال أفريقيا.
السعودية ومعها دول أوبك بلاس تدرك كلّ ذلك، وتعي تمام الأجندات الخفيّة والمكائد السياسية والنفاق الدولي؛ ولذلك هي تسعى أيضاً لحماية مصالحها، وتعظيم منافعها، باتخاذ القرارات التي تخدمها وتؤمن سوق الطاقة، حاضراً ومستقبلاً.
طلب واشنطن ورفض الرياض
أما محاولة البعض خلط الأوراق بالربط بين الموقف السعودي من الحرب الروسية الأوكرانية، وتوتر العلاقة مع إدارة بايدن، وبين قرارات اتخذت بالإجماع لثلاث وعشرين دولة، برئاسة السعودية، فإنها قد تساعد المرشح الديمقراطي في الانتخابات التشريعية الأميركية لتبرير فشل قيادته في إدارة الصراعات والتحالفات الدولية، وحماية مصلحة المستهلك الأميركي. وهذا يفسّر طلب إدارة بايدن من الرياض تأجيل قرار تخفيض الإنتاج شهراً واحداً فقط، أي لما بعد الانتخابات، وفق ما كشف بيان وزارة الخارجية السعودية، فجر هذا الخميس، وكانت صحيفة "وول ستريت" قد سرّبت الطلب من دهاليز الإدارة الأميركية قبلها بأيام. وهو طلب رفضته السعودية لأنه يتعارض مع التحليلات الاقتصادية لسوق الطاقة، التي تؤكد الحاجة الملحة لاتّخاذ القرار حالاً، ولأنها ترفض أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأيّ بلد، أو تخدم أية مصالح على حساب مصالحها.
"البترودولار" و"التمرد" الأميركي
قد يعلو الضجيج ويحتدم الجدل، وقد يستمرّ "التمرد" على تعهدات والتزامات واشنطن تجاه أمن المملكة، ولكنّها تظلّ حالة تخدير مؤقتة سرعان ما تكشفها الأيام والأحداث، ويوضحها الرّد المقابل من المنافس الجمهوري، الذي بلا شكّ سيعتبر طلب التأجيل دعوة لتدخل دولة أجنبية في الانتخابات الأميركية يعاقب عليها الدستور، وتخلّياً عن مصالح أميركا الأمنية في المنطقة، ودفعاً بحلفائها إلى المعسكر الشرقي. وسيسهم أيضاً في توضيح الموقف للشعب الأميركي بيانات المتخصصين والمحايدين والدول المستهدفة. ويرد على تهمة الانحياز لروسيا موقف السعودية ودول الخليج المبدئي من الغزو الروسي لأوكرانيا، وتصويتها الأربعاء في الجمعية العمومية بتأييد قرار إدانة الانتخابات الصورية في المقاطعات الأوكرانية المحتلّة، والضمّ القسريّ لها، كما صوتت من قبل على قرارات مماثلة. ووساطة الرياض لإطلاق أسرى حرب في روسيا، معظمهم أوروبيون وأميركيّون، استحقّت إشادة إدارة بايدن والرئيس الأوكراني منذ أسبوعين فقط.
وفي كلّ الأحوال، ستتوازن أسواق الطاقة وتستقرّ على المستويات التي تخدم المنتج والمستهلك، وستثبت الرياض عدم تسييسها أو تسليحها للنفط، وستَثبت على حيادها بين أطراف الصراع وأقطاب العالم الجديد، وتتجاوز بذلك سفينة العلاقات السعودية - الأميركية العاصفة المفتعلة. فالسعودية دولة مستقلّة وليست متمرّدة، وأميركا دولة عظمى وليست طائشة. والمصالح التي تجمع الطرفين أعظم من الخلافات التي تفرّقهما. وسيبقى "البترودولار" مرسى العلاقة "الثمانينية"، وضمانة العملة الأميركية، ودعامة الاقتصاد الأميركي، حتى لو لم تدخل أميركا نادي الدول المصدّرة، وتنضم لتحالف أوبك بقيادة السعودية!
* أستاذ في جامعة الفيصل