منى حمدان
لم نكن نعرف، أخي وأنا، ما هو الملجأ خلال الحرب الأهلية، لأننا لم ننزل إليه يوماً، أو هذا ما كنت أعتقده على الأقل.
وحين سألت أمي خلال منتصف التسعينيات تقريباً، عن سبب عدم تردّدنا إلى الملجأ، ظناً مني أنها لم تخف علينا، ضحكت وأخبرتني أننا لم نكن نعرف أن حرباً دائرة في لبنان أصلاً.
لذلك، لم تكن تستطيع أن تصحبنا إليه إلا في مراتٍ نادرة، لا أذكر عنها شيئاً. فحين كانت تشتد المعارك كثيراً، كنا نذهب معها والجيران إلى "بستانٍ مقفل" في المبنى الذي نسكنه.
كان ملجأ المبنى، لكننا كنا نظن أنه بستان، لأن هذا ما أرادت أمّنا أن نظنّه.
نتنزه، ونقضي بعض الوقت فيه من حينٍ إلى آخر، ثم نعود إلى النوم في منزلنا. ولأن غرف النوم غير آمنة، كانت أمي تضع لي فراشاً صغيراً في بانيو الحمام، وفراشاً آخر لأخي على الأرض إلى جانبي. وتنام هي إلى جانبنا، على فراشٍ تمدّده خارج الحمام.
كنا صغاراً، لكن طفولتنا لم تمنعنا من ملاحظة غياب والدي المتكرر عن المنزل. فمكوثه معنا كان رهناً بالأحداث، لأنه كغيره من كوادر الحزب الشيوعي اللبناني، كان مهدداً بالاغتيال، خصوصاً من قبل النظام السوري وحلفائه اللبنانيين آنذاك.
لذلك، كان عليه التواري عن الأنظار، كبقية رفاقه، في أماكن متعددة ومنها الرميلة التي كان يحميها الحزب الشيوعي اللبناني وأحزاب يسارية أخرى.
وحين كنا نسأل أمي عنه كانت تجيبنا أنه سافر إلى سوريا ليعمل هناك. ونحن نعرف أن سوريا ليست بعيدة عن لبنان، ويمكن السفر إليها بالسيارة، فكنا نصدقها، وكنا نراه في نهاية كل أسبوع.
إذ تصحبنا أمي إلى منزل صديقه، في الرميلة، بحجة أن على كلٍ منا، أبي ونحن، أن يقطع نصف الطريق لملاقاة الآخر.
كانت الحرب في ذاكرتي سفراً وأباً غائباً وانتقالاً من المنزل الذي نشأت فيه. وكان هذا الانتقال إحدى خيباتي الصغيرة.
فصحيح أن خيبات كثيرة ومتراكمة هي التي ساهمت في تشكيلي، وهي سبب ما أنا عليه اليوم، جيداً كان أو سيئاً، لكنني كطفلة شعرت بأولى خيباتي بوضوح في السابعة من عمري، حين انتهت الحرب، التي لم أكن أعرف عنها شيئاً أصلاً.
حينها لم يستوعب عقلي الصغير حقيقة أن هذا ليس منزلنا، وأنه بات علينا بين عامي 1991 و1992 أن نعود إلى بيتنا الأصلي في صفير بعد ترميمه، ونسلّم هذا المنزل إلى أصحابه!
فما حصل حقيقة أننا انتقلنا من منزلنا الكائن في منطقة صفير، إلى منزلٍ يفترض أن يكون أكثر أماناً بعد اشتداد المعارك على خط التماس المطل على البيت.
كان عمري حينها أسبوعاً واحداً، وكنا في العام 1983. وهذا يبرّر، باعتقادي، شعوري بالانتماء إلى المنزل الآخر الذي انتقلنا إليه في منطقة الرويس.
ففيه تكوّن وعيي الذي هيِّئ لي أن هذا المكان، الذي احتوى ذكريات كثيرة متقطعة في ذهني، هو منزلنا الذي ولدت وسأعيش فيه، خصوصاً أننا أنشأنا، أخي، الذي يكبرني بثلاث سنوات وأنا، ذكريات جميلة لم تلوّثها الحرب.
ذاكرة وهمية
صنعت لنا أمي ذكريات غير حقيقية، لكنها ربما أفضل بكثير من الحقيقة.
فماذا سيشعر طفل/ة صغير/ة إذا عرف أن حروباً مجنونة تجري حوله/ا، وأن والده/ا معرّض لخطر الاغتيال، كما كان وضع والدي مثلاً؟
ولأن أمي كاذبة ماهرة، ولها من الخيال ما يكفي لتربية طفلين في ظل هذه الحروب، لم نعرف الحقد والكره، لأننا لم نكن نعرف أصلاً ما هي الطائفية. وماذا يعني أن يكون المرء مسلماً/ةً أو مسيحياً/ةً، ولا ماذا تعني جملة "ذبح على الهوية"، لأننا لم نسمع عنها إلا في منتصف التسعينيات، حين بدأت أسأل عن تلك الفترة التي لا أملك أي ذاكرة حقيقية عنها.
كنا محصّنين من الحرب والخوف والطائفية والمذهبية، نتنزه من وقتٍ إلى آخر في "بستان مقفل".
ولم نتعلم شيئاً في المدرسة عن الدين والطوائف، على الرغم من أن أمي مسيحية تزوجت من أبي المسلم زواج "خطيفة"، بسبب معارضة أهلها "الشيوعيين" لهذا الزواج!
حين كثرت تساؤلاتي حول الحرب وما حصل فيها، على صعيد البلاد، وعلى صعيد عائلتنا الصغيرة، أخبرني والدي بعض الحكايات والحوادث التي عاشها، وعن ملامسة الموت لجسده مراتٍ عدة.
في إحدى المرات تعرض لمحاولة اغتيال من قبل الميليشيا التي كانت مسيطرة على الضاحية الجنوبية. وراح يخبرني كيف نجا من هذه المحاولة بأعجوبة، خفتُ وحبستُ أنفاسي كمن يشاهد فيلم رعب، وشهقت كمن رأى جثةً للمرة الأولى.
وهذا ما يحصل حين أتذكر الحادثة التي تعرّضنا لها في طريق عودتنا من الرميلة عام 1989.
كان عمري حينها ست سنوات، لكنني أتذكر استناداً إلى ما يرويه والدي، وإلى نتفٍ قليلة علقت في ذاكرة طفولتي: قطع والدي، من دون أن ينتبه الحاجز السوري الشهير الواقع في منطقة خلدة، مسرعاً في سيارته، التي كانت تحملنا مع أخي وأمي.
لحقت بنا سيارة مدنية، راح من فيها يطلقون النار منها "فوق الرؤوس"، وفق تعبير والدي. كنت حينها نائمة في السيارة، فاستيقظت مذعورةً، ولم أفهم أبداً ما يحصل. لكن والدي استطاع حل المشكلة "حبّياً" مع الضابط المسؤول.
وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات على تلك الحادثة، أرتجف حين أذكرها، كأن الرصاص "يلعلع" فوق رأسي الآن، في اللحظة التي أكتب فيها.
قاتل لا أعرفه
منذ بداية مراهقتي وحتى منتصف العشرينيات من عمري، كان يراودني دائماً حلمٌ بطله قاتل لا أعرفه، يريد أن يقتلني بعد أن أغفو.
كنت أعاني من الأرق بسبب هذا الكابوس شبه اليومي، لذلك كنت أحاول دائماً أن أنام قبل أن يغفو الجميع لأشعر ببعض الأمان وأنام. وحين أعجز عن ذلك، وينام جميع من في البيت قبلي، كنت أعجز عن النوم قبل الرابعة أو الخامسة صباحاً.
ربما لذلك الكابوس علاقة بخوفي الدائم أثناء طفولتي من مجهولٍ كانت أمي تقفل الباب الرئيسي، وأبواب الشرفات والنوافذ، خوفاً علينا منه.
وأحياناً كانت تضعنا في غرفةٍ بعيدةٍ عن مصدر صوت القصف، وتقفل الغرفة علينا، وتبقى في الخارج لحراستنا.
كنت أحكي هذه القصة في إحدى جلسات علاجي النفسي، فقالت لي المُعالجة إن الطفل/ة، حتى لو أخفيتِ عنه/ا حقيقةً ما، مثل وجود حرب دائرة حوله/ا، سيشعر/ستشعر بالقلق حتماً، وبأن أمراً غير طبيعي يحدث، لكنه/ا لا يستطيع/تستطيع تحديده.
كما كان والدي، في زياراته إلينا وزياراتنا إليه، يبدأ حديثه بالقول: "استشهد فلان، قتل الرفيق الفلاني، وخُطف آخر".
وكان بعض رفاقه/رفيقاته يغِبن/يغيبون إلى الأبد، ويتحوّلن/ون إلى صورٍ على الجدران. وكنت أخاف من أن يتحول والدي إلى صورةٍ على حائطٍ كرفاقه/رفيقاته.
ربما لذلك أحاول أن لا أفوّت جلسةً عائلية، فعائلتنا كانت مفصولة نوعاً ما معظم سنوات الحرب، لا تجتمع على غداء، ولا تسهر على عشاء، إلا في مراتٍ قليلة جداً.
هل نجح والداي في حمايتنا؟
كان والداي يريدان، من وراء هذه الكذبة، حمايتنا ضد القساوة والبشاعة، خوفاً من أن ينمو الحقد في داخلنا.
وفي الفترات التي كان يضطر فيها والدي للاختفاء، كان احتمال تعرضنا للخطر في غيابه وارداً.
لكن أمي حمتنا ووفرت علينا، بمساعدته، أن نشعر بالحرب التي كنا نعيش في جنونها. حتى إنها كانت ترفض الانتقال النهائي إلى منزلٍ آخر لئلا نشعر بعدم الاستقرار.
اليوم، أعيش في ذاكرتي، الحرب التي حرمتني منها أمي.