النهار

خريطة السلام من صنعاء إلى مكة
طائرة تقل أسرى أفرج عنهم. (أ.ف.ب).
A+   A-
(لا بدّ من صنعاء وإن السفر)... وقد طال. عشر سنوات عجاف منذ الأزمة اليمنية التي بدأت بخروج الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح من السلطة، عام 2012، وتسليمها لنائبه عبد ربه هادي، ثم العمل على تقويضها من الداخل، بالتعاون مع خصوم الماضي، في صعدة.
 
حروب صغيرة استعرت واستمرت حتى وصلت إلى أبواب عدن، عام 2015، فاستنجد الرئيس الشرعي، هادي، بالسعودية التي قامت بالتعاون مع دول التحالف وبدعم من المجتمع الأممي، وتأييد من مجلس الأمن، والقوى الكبرى، بوقف الزحف الشمالي، وحصاره في عشرين في المئة من أرض اليمن.
 
"المعركة المقدسة"
خططت إيران ودعمت الانقلاب بالمال والسلاح والخبرات، لكنها تقاعست عن دعمه بالدم والدواء والطعام. ثمّ، لمّا تعرقل تنفيذ الاتفاقية النوويّة، وعادت العقوبات الدولية، وتحسّنت قدرات التحالف على كشف ومصادرة السلاح المهرّب، انخفض الدعم السابق، ونصحت الحوثي باحتلال مأرب مهما كان الثمن، للاستفادة من آبارها النفطية، ووجّهت حزب الله بتوفير الخبرات العسكرية والقيادية.
 
سمّوها "المعركة المقدّسة"، ووعدوا بالإفطار على تمر مأرب، ودفعوا بعشرات آلاف الرجال والمعدّات والمدرّعات في هجوم استمرّ أكثر من عام، وانتهى بهزيمة كاسحة على يد القوات اليمنية، وبدعم التحالف، خسروا فيها أربعين ألف مقاتل، وأربعة آلاف مدرّعة وآليّة، وكمّاً لا يحصى من الأسلحة والذخائر.
 
إحياء المبادرة السعودية
تحوّلوا إلى تكثيف القصف المباشر على دول التحالف، خاصّة السعودية، واستهدفوا المدن والمناطق الحيوية المدنيّة، وآبار النفط وممرات الشحن الدولية، فردّ الحلفاء بقصف مخازن الطاقة حتى لم يعد لديهم وقود لمعداتهم العسكرية، فطلبوا الهدنة، وقبلوا بشروطها المقدّمة منذ عام 2016، في ماراثون الثلاثة أشهر من المباحثات اليمنية في الكويت، والتي أوشكت على توقيع اتفاق في مكة المكرمة، لولا دعوة رئيس الوفد المفاوض إلى سلطنة عمان، وتلقّيه تعليمات إيرانية بفسخ كلّ ما تمّ التوافق عليه.
 
وطرحت مبادئ المبادرة السعودية للسلام في اليمن عام 2018، بعد معركة الحديدة، التي أوقفت لأسباب إنسانيّة، وتمّ تبنّي بعض ما جاء فيها في عمان ثمّ في استكهولم. وطرحت مرة أخرى عام 2021، إلا أنّ الحوثي اختار طريق الحرب بإطلاق حملة "الحرب المقدسة" في مأرب، لتأمين موارد جديدة من آبارها النفطية، بعد أن ضعف الدعم الإيراني نتيجة لفشل مباحثات الاتفاق النووي واستمرار العقوبات الدولية.
 
وها هي المبادرة السعودية تعود إلى طاولة السلام في 2023 بنفس شروطها وتفاصيلها لتناقش من جديد، بعد أن رفضت في كلّ مرة أو قبلت بعض بنودها، ثمّ تمّ الانقلاب عليها، كما حدث لاتفاق استوكهولم، واتفاق هدنة رمضان العام الماضي.
 
المسوّدة النهائيّة
تنصّ المبادرة على أربعة محاور: وقف إطلاق النار، والسّماح بإيداع الضرائب والإيرادات الجمركيّة لسفن المشتقات النفطية من ميناء الحديدة في الحساب المشترك في البنك المركزي اليمني بالحديدة، وفق اتفاق ستوكهولم؛ ثم السماح بعدها بفتح مطار صنعاء وبدء مشاورات الحلّ السياسي بين الأطراف اليمنية برعاية سعودية على مدى عامين، يتم خلال ذلك انسحاب تدريجيّ لقوات التحالف.
 
واليوم، وبعد التحول الإيراني الأخير إلى مسار السلام، ونصائحهم لحلفائهم بسلوك الدرب نفسه، يستقبل الحوثي وفداً سعودياً - عمانياً في صنعاء، لمناقشة ما تمّ تدارسه في جلسات سابقة في عمان، والرياض، وظهران الجنوب، ومعالجة المسودة النهائية للمبادرة التي تم الاتفاق عليها مع وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، واعتمادها من مجلس الرئاسة اليمني. والجاري بحثه اليوم يدور حول أولويات وآليات هذا الاتفاق.
 
تعنّت اللحظة الأخيرة
كان المؤمّل أن يتمّ التوقيع عليه من كافة الأطراف في مكة المكرمة خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، لولا تعنّت الحوثي في اللحظات الأخيرة، وإصراره على شروط جديدة؛ المعلن منها يحدّد السعودية كطرف مكافئ، في صراع بين بلدين، وليس وسيطاً محايداً، والمخفيّ منها مطالبات مادية من بينها ضمّ أربعين ألفاً من اتباع الحركة إلى كشوفات رواتب موظّفي الدولة، واستبعاد الحكومة الشرعيّة من الحوار.
 
وهكذا انتهت الجولة الأخيرة من المفاوضات بإنجاز وحيد هو تبادل الأسرى بين الطرفين، بمبدأ الكلّ مقابل الكلّ، والاتفاق على جولة أخرى لم يُعلن عن موعدها.
 
خريطة الطريق
وحسب مصادر مسؤولة، فإنّ ما تمّ تقديمه في المسوّدة المطروحة خريطة طريق لمسار السلام اليمني. ودور السعودية في هذه المرحلة هو دور الراعي، ضمن منظومة رعاة الملف اليمني في مجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة. فمن يقرر مصير الجمهورية، ومن يقرر خيار الوحدة أو الكونفدرالية أو الفيدرالية أو الانفصال، ومن يحدد وضع إقليم حضرموت في النظام الجديد، هم ممثلو كافة المكونات اليمنية.
 
فلا السعودية، ولا الدول الراعية للملف اليمني وللمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن أطراف في هذه المباحثات، ولا أصحاب رأي وقرار. ولكنّها ستشجّع وتشرف على هذه المباحثات، وستقدّم الدّعم لأيّ قرارات يتوافق عليها المشاركون، وستضفي الشرعية على أيّ شكل للحكم يتوصلون إليه.

إزاحة العراقيل
تجدر الإشارة هنا إلى أن الاتفاق السعودي - الإيراني هيّأ الأجواء المناسبة للمباحثات، وأزال عراقيل المسار، وشجّع كافة الأطراف على المشاركة بإيجابية وإخلاص، بعيداً عن الضغوط السلبية، والإملاءات الخارجية. لكن الاتفاق الأمني مع إيران لم يشمل المشكلة اليمنية، فهو إحياء لاتفاقية سابقة وقّعت عام 2001، قبل وقت طويل من نشوء الأزمة، والتركيز فيه على قضايا ثنائيّة وشؤون سعودية - إيرانية بالدرجة الأولى.
 
كما ليّن تعنت القادة الحوثيين رهق سبع سنين عجاف من الحرب والجوع والمرض. وتظهر استطلاعات رأيٍ أن القادة الميدانيين وصلوا إلى قناعة بأن هذه معركة لا كسب فيها، ولا انتصار، وأن شيوخ القبائل والتجار والمواطنين لم يبقَ فيهم مؤيّد لاستمرار حرب عبثية، دموية، استنزفت موارد الحياة الطبيعية، وفاقمت المعاناة الإنسانية، وسفكت الدماء بلا جدوى ولا أمل.

الأسئلة المقبلة
وتبقى الأسئلة: هل سيُنهي اتفاق مكة المكرمة المنتظر الخلافات كافة بين اليمنيين؟ وهل سيقى ميزان القوى على حاله بعد انسحاب قوات التحالف؟ هل ستستمرّ الوحدة على ما كانت عليه أم ستتحوّل إلى دولة فيدرالية، حسب نظام الأقاليم المتّفق عليه قبل الانقلاب الحوثي، أم أن الانفصال والعودة إلى ما قبل دولة الوحدة في 1991 بات أمراً محتوما؟ وما هو موقع دولة الجنوب من الخريطة؟ ومن سيحمي إقليم حضرموت من غزو المجلس الانتقالي إذا اختار الحضارم الاستقلال هم أيضاً والعودة إلى خريطة البلاد في عهد الحماية البريطانية؟ وما هو موقع الدولة أو الدول الجديدة من أو في مجلس التعاون الخليجي؟
 
أياً كان القرار والخيار، فإن الحوثيين يعلمون أنه إذا كانت إيران شريك للحرب فإن السعودية خير شريك للسلام، وأن عاصفة الأمل للبناء والتنمية التي بدأت في المناطق المحرّرة، ستمتدّ فور حلول السلام والأمن لتشمل إعمار وتأهيل مناطق اليمن كافة، وأن مستقبلاً يضمن بقاءهم كمكوّن سياسيّ ومجتمعيّ له احترامه ومكانته خير من مصير محكوم بالثأر والنار والدّم.
لنأمل وندعو في هذا الشهر الفضيل أن يلهمهم حسن الاختيار وخير القرار.
 

* استاذ في جامعة الفيصل
@kbatarfi
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium