منذ حوالي شهر ونصف الشهر، وبينما كنت أستقل إحدى وسائل النقل العام، صادف أن اختار شوفير الباص الاستماع لأحد رجال الدين عبر الراديو، وحقيقةً لم أعد أذكر اسمه ولا حتى الإذاعة التي كان يتحدّث عبرها. ولكنّ أمراً ما أثار استغرابي في ذك اليوم وعلق في رأسي وهو سؤال أحد المستمعين عن "جيران السوء". طبعاً تصل الأسئلة إلى البرنامج عبر الاتصال المباشر أو عبر رقم "الواتساب" المخصّص. إلّا أن سؤال المستمع هذا وصل عبر رسالة قصيرة، فاستوضح الشيخ أو السيد، في ذلك الحين عما يقصده المستمع تحديداً بـ"جيران السوء"، قائلاً إن السؤال متشعّب، وتابع أجوبته عن الأسئلة الأخرى.
بضع دقائق وأرسل المستمع توضيحه، لافتاً إلى أن ما قصده هو كل ما يندرج تحت مصطلح "سيّئ" و"أذى" كالضجيج المتواصل وافتراش الأرصفة بالأراكيل، وأمام المحالّ، وانتشار مقاهي الإكسبرس بين المنازل، والإشكالات التي تحصل والتعدّيات والعنتريات، وأعمال السرقة والتشليح على حدّ قوله، مركّزاً على ظاهرة الدراجات النارية، طالباً تخصيص الجزء الأكبر من المحاضرات الدينية للشق اليومي الأخلاقي الذي لا ينحصر باللباس والمأكل والمشرب، حيث إن ما نعيشه مؤشر على غياب تام لدور رجال الدين في التوعية والإرشاد والتوجيه.
ضحك الشيخ بعد سرد الصحافي لتفسير طلب المستمع عليه، وبادر للاستشهاد بما حصل معه خلال زيارته دولة أوروبية، معدّداً لائحة طويلة من الممنوعات هناك أذكر منها، حفلات الشواء على مسافة قريبة من الجيران واستخدام المرحاض في وقت متأخر من الليل وكيفية ركن السيارة على الأرصفة وغيرها، لافتاً إلى أن الوضع في لبنان مختلف حيث لا قانون ولا رقابة ولا محاسبة، على حد قوله.
مناسبة هذا الحديث، ليس التنقير على الدين ولا على رجاله، لا يعنيني فعل ذلك، بل ما حصل على الشاطئ من تعرُّض سيّدتين للرشق بالحجارة خلال ممارستهما السباحة على شاطئ صيدا.
وللتذكير، سيدتان كانتا ترتديان ملابس السباحة على الشاطئ، وصل إليهما شيخان من المدينة وأمهلاهما دقيقتين لإخلائه. وعندما لم تمتثل السيدتان لهذا الإنذار، أقدم الشيخان على رشقهما بالحجارة، وهرع حوالي 10 شبّان آخرين يرشقون السيدتين بما تيسّر أيضاً. ولم يتجرّأ أحد من المارّة أو الأهالي الموجودين في محيط الحادثة على التدخّل، رغم تعرّض السيدتين لأضرار جسدية، فضلاً عن الأضرار النفسية.
حتى لا أقع ضحيّة هجوم مناصري "لعدم التعميم"، وبمتابعتي المتواضعة لبعض الخطب والأحاديث في المناسبات الدينية والاجتماعية والسياسية، من الجيد أن أسأل عن كيفية اختيار رجال الدين للميادين التي يفضّلون الحضور فيها، وكيف يسهل عليهم الحضور في شأن ما ويصعب عليهم في شأن آخر. وما الأخطر على مجتمعنا، تنوّع الثقاقات وأساليب الحياة أم فرض توجّهاتنا على الآخر؟ كما من المفيد السؤال عن رجل دين اقتحم مصرفاً لأجل وديعة ابن طائفته على الأقل حتى لا نقول المودعين ككل؟ عن رجل دين هاجم تقصير السياسيين واستباحتهم لكرامة الناس في "مناطقنا ومناطقهم" لا في "مناطقهم" فقط؟ عن رجل دين خصّص خطبة سياسيّة لا للتصويت لفلان في الانتخابات ومدح آخر وتعداد إنجازته، بل تسمية الأشياء بأسمائها دون التلطّي بضمير الغائب؟ هل قام رجل دين يوماً برشق صاحب مولّد الكهرباء بالحجارة لممارسته كل أنواع "الكفر" بحق زبائنه؟ هل رشق رجل دين صاحب دكّان لتلاعبه بالأسعار؟ لعلّ مواقع التواصل ونشرات الأخبار فاتها ذلك!
في يومي الأول من العام الدراسي في سن الـ13، وبعد انتقالي من مدرسة إلى أخرى، أنّبتني أستاذة مادّة الدين لعدم قدرتي على تلاوة سورة من القرآن الكريم. يومها شعرت بأن جدران الصف أطبقت عليّ وكان سؤالي الأول لدى وصولي إلى المنزل: لماذا لم تعلّموني تلاوة القرآن؟ أذكر اليوم هذه الحادثة بشيء من الغرابة، هل كان عليّ حقاً أن أرتّل القرآن لأقنع معلّمتي بأنّني تلميذة تستحق التصفيق؟ أمّ هي عن سوء تقدير لم تكن تدرك أن الاختلاف فيه شيء من الغنى؟ واليوم، هل كان حقاً على تينك السيدتين أخذ إذن الشيخين أو استشارتهما لاختيار نوع الملابس التي ترغبان في أن ترتدياها؟ ومن أوكل إلى الشيخين مهمّة "تنظيف" الشاطئ من "الآخر"؟
هي دائرة فيها ما فيها من سياسة ودين ومجتمع وعادات أصبح من الملحّ والضروري الخروج منها، والسبيل الأول هو اهتمام رجال الدين بما "يفسد" أخلاق هذا المجتمع حقاً، وترك الناس لما بقي لهم من "هواء".