زياد عبد الصمد
تناولت خطة الحكومة للتعافي التي نُشرت مطلع العام الجاري عدداً من القضايا فائقة الأهمية تساهم في إطلاق حوار مطلوب حول سبل وقف الانهيار والخروج من الأزمة. بالمقابل، ركّزت معظم الردود على أبرز الثغرات فيها لا سيما تلك المتعلّقة بالتمويل، وهو أساساً موضوع شائك خاصة عند الغوص في تفاصيله.
تنطلق الخطة من ضرورة تغطية الخسائر الفادحة التي تكبّدتها المالية العامة ومصرف لبنان والمصارف التجارية الخاصة، فتسير باتجاه إعفاء الدولة من مسؤولياتها من خلال شطب ديونها، أو جزء منها، وتحميل المواطنين، وبشكل أساسيّ المودعين، والمصارف العبء الأكبر لتلك الخسائر. كذلك تقترح الخطة التقشف في الإنفاق العام من خلال وقف أو تقليص دعم القطاعات الأساسية كالطاقة والنقل والصحة والتعليم والسّلع الغذائية الأساسيّة، وكذلك كتلة رواتب وأجور العاملين في القطاع العام.
تتوقف هذه المقالة عند مسألتين أساسيتين، الأولى هي تمويل خطة التعافي، والثانية تتعلق بالجهة التي تضعها. ومن ثَمَّ تدعو إلى اعتماد المقاربة التنموية الشاملة كمدخل لوقف الانهيار ومعالجة الأزمة.
ولكن، وقبل ذلك، لا بدّ من التذكير بمقالة سابقة نشرها موقع شبكة المنظّمات العربية غير الحكومية للتنمية في أيار الماضي بعنوان: "حول اتفاق الإطار بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي"، تناولت البعد السياسيّ للأزمة، الذي يغيب عن أيّ خطة مقترحة، بالرّغم من أنّ الأزمة تبدو بظاهرها اقتصاديّة وماليّة واجتماعيّة، لكن الأسباب الأساسية الكامنة وراءها سياسيّة، ومرتبطة أساساً بغياب الحوكمة الديمقراطيّة وتعطيل آليّات المساءلة والمحاسبة والتمادي في الإفلات من العقاب. فالخسائر التي تفوق قيمتها الـ80 مليار دولار أميركيّ حسب تقديرات خطة التعافي نفسها، ناتجة عن سوء استخدام الأمانة، والابتعاد عن المعايير القانونية والشفافية نتيجة المحاصصة وعلاقات الزبائنية. وقد جاء في تقرير البنك الدولي في خريف العام 2021 حول الأزمة في لبنان بأنها "أزمة مفتعلة"، وتتحمّل مسؤوليّتها الطبقة السياسيّة التي توالت على الحكم منذ عقود.
توزيع الخسائر
وبالعودة إلى الخطة ومعالجة الخسائر فهي تطرح إشكاليتين بالغتي الأهمية، الأولى تتعلّق بتوزيع الخسائر، أي مَن يتحمّل الخسائر؟ وهي التي نتجت أساساً عن سوء استخدام السّلطة والنفوذ والإمعان في نهب المال العام، وبالتالي ليس منطقياً أن تتوزّع على المصارف والمودعين، بعد أن تحمّل الشعب اللبنانيّ، ولا يزال يتحمّل تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية، قبل أن تتمّ محاسبة المسؤولين المباشرين عنها. لذلك، لا بدّ من اللجوء إلى الأدوات التي توفّرها دولة القانون من خلال احترام الدستور وإقرار وتطبيق القوانين الإصلاحيّة، خاصة قانون إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليّته، بالإضافة إلى قوانين مكافحة الفساد كالإثراء غير المشروع والسريّة المصرفيّة والتدقيق في حسابات مصرف لبنان والمصارف التجارية والإدارات العامة لتحديد الخسائر والمسؤوليّات واسترجاع الأموال المهربة من الخارج. وهذا يتطلّب إطلاق ورشة للإصلاح التشريعي والإداري والمالي لمعالجة الخراب الذي تسبّبت به الممارسات الزبائنية للسلطة السياسية في التوظيف وتوزيع المنافع العامة على المحاسيب.
أما الإشكالية الثانية فتتعلّق بالجهة المناط بها إعداد الخطة، إذ من غير المنطقي أن تقرّ أيّ خطة بهذا الحجم، سيترتب عنها أعباء ضخمة على مختلف الفئات الاجتماعية، وتحديداً الفئات الضعيفة والهشّة، من دون التشاور مع أصحاب الحقوق والمشاركة الفعليّة في تحديد وجهة توزيع الخسائر ووضع تصوّر لوقف الانهيار والخروج من الأزمة. إن المطلوب هو الاتفاق على خطّة وطنيّة يتمّ التفاوض على أساسها مع الجهات الدولية المانحة، بما فيها صندوق النقد الدولي، بدل أن تعتمد خطة حكومية يضعها فريق وزاريّ يمثل "الكارتيلات" وأصحاب النفوذ الاقتصادي والمالي والمصالح السياسية الفئوية وبعض الخبراء، فتأتي لتعبّر عن مصالحهم على حساب مصالح وحقوق النّاس.
الرؤية الشاملة
من جهة ثانية، تغيب عن خطة التعافي المقاربة التنموية الشاملة التي يتم على أساسها تحديد أوجه الاتفاق الاجتماعي. وبالرغم من أن الإنفاق العام على القطاعات الاجتماعية كنسبة من الناتج المحليّ يبلغ معدّلات متدنية نسبياً مقارنة بالمعدّلات الدوليّة، فإنّ معظمه يذهب إلى التعاقد مع مقدّمي الخدمات في القطاع الخاص بدل أن يتوجّه نحو تعزيز جودة الخدمات في مؤسسات القطاع العام، لاسيما الصحّة والتعليم والنقل المشترك والاتصالات.
إن العجز في المالية العامة، وانهيار سعر الصرف، والاعتماد بشكل أساسيّ على استيراد السلع الأساسية كالأدوية والموادّ الغذائيّة والموادّ الأوليّة، سيزيد من أعباء المواطنين ويقلّص من قدرة الدولة على تغطية الخدمات العامة، ممّا سيزيد من مآسي المواطنين الاجتماعية، ويعزّز التفاوت والفقر والتهميش. فالنسب الصادرة عن المنظمات الدولية تفيد بأنّ معدّل الفقر المتعدّد الأبعاد في لبنان بلغ 82%، وأن نسب البطالة قاربت الـ40%، خاصة عند الشباب، علماً بأن نسبة العمل غير النظاميّ فاقت الـ60% (خارج قطاع الزراعة).
أمام هذا الحجم من الانهيار الاجتماعي، تلجأ الحكومة اللبنانية إلى الاستدانة لتنفيذ برامج شبكات الأمان الاجتماعي التي تستهدف الأسر الأكثر فقراً، في الوقت الذي بات الذهاب إلى التغطية الشاملة مسألة أكثر من ضروريّة؛ علماً بأن منظمة اليونسيف، بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، وبالتشاور والتنسيق مع خبراء من المجتمع المدنيّ اللبنانيّ أعدت خطة وطنية تتضمّن تصوراً لـ"نظام الحماية الاجتماعية"، يشمل المواطنين في مختلف فترات حياتهم، منذ الولادة وحتى الشيخوخة، وفي مختلف الظروف، كما تقترح الخطة إنشاء صندوق لحماية البطالة؛ وذلك انطلاقاً من المقاربة الحقوقيّة والتنمويّة الشّاملة التي لا تعتبر أن الإنفاق الاجتماعيّ عبء بل استثمار في الرأسمال البشريّ، وضمانة للتماسك الاجتماعي.
إن تخفيض التكاليف المعيشية من خلال تخفيض أعباء الخدمات العامة الأساسية كالكهرباء والماء النظيفة والنقل العام والاتصالات، بالإضافة إلى الطبابة والتعليم والوصول إلى الموادّ الغذائيّة الأساسية والأدوية تستعيض عن الحاجة الملحّة إلى زيادة الأجور، التي من شأنها زيادة التضخم والأعباء على الخزينة العامة والاستثمارات الخاصّة. وهذا الاستثمار في البنية التحتية الذي يؤدّي إلى تخفيض الأعباء المعيشيّة اليوميّة يساهم في الوقت نفسه بإعادة إطلاق الاقتصاد الوطني التنافسيّ والمستدام والمنتج على المديين المتوسّط والبعيد.
للخروج من الأزمة بات لبنان اليوم بأمس الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار إلى "المواطنة"، ويوازن بين الحقوق والواجبات، ويُلغي علاقات الزبائنيّة وسياسة المحاسيب، التي نسجتها السّلطة السياسيّة بمكوّناتها الحزبيّة والطائفيّة والميليشاويّة لتعزيز نفوذها وتأمين استمراريتها في السلطة، ممّا ساهم في انتشار الفساد، وعطّل أدوات المساءلة والمحاسبة والإفلات من العقاب، وأوصل البلاد إلى الانهيار الذي تشهده حالياً.
المطلوب هو عقد اجتماعيّ يحترم حقوق الإنسان، ويُعزّز آليات الحكم الديمقراطيّ، ويبني الاقتصاد الوطنيّ المنتج والتنافسيّ والمستدام، ويُحقّق العدالة الاجتماعية من خلال تكافؤ الفرص بين المواطنين والتوزيع العادل للمداخيل.
وأخيراً، إن وقف الانهيار في لبنان يتطلّب مقاربة تنموية شاملة تشاركيّة، وتضمينيّة، تنطلق من معالجة البعد السياسيّ للأزمة، ويُعزّز الشفافيّة، ويحمي الحريّات العامّة والخاصّة، ويحمي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُحافظ على البيئة والموارد الطبيعيّة وعلى حقوق الأجيال القادمة.