الخسائر البشرية هي الخسارة الموجعة لكل صراع وحرب. في الحرب العسكرية تزهق الأرواح بالعشرات وتصبح أرقامًا. أما في الصراعات الإقليميّة فالخسارة البشريّة أرواح تُستنزف حتى الرمق الأخير مع كلّ محطّة من محطات التعنيف الاقتصاديّ الاجتماعيّ الممنهج! اللبنانيون يعانون الموت مرات ومرات عبر خطة إذلال مُحكمة غير مسبوقة تلتف حول أعناق الجميع! إنّها حيثيات نهب وترهيب نفسيّ لم يسبق أن تداخلت في مثل هذه الظروف على مرّ التاريخ!
لبنان ليس في حالة غزو ولا أي نوع من أنواع الحرب. ولكن فجأة، أمور تقصم ظهر أي بشري بدأت تتوالى:
جنى العمر تبدّد في المصارف، وممنوع أن نسأل: كيف، ولماذا؟ سعر العملة تدهور بين ليلة وضحاها لأنّ أحدهم قرّر أن يتلاعب بسعر الدولار لتمويل أهدافه الاستراتيجية الخاصّة على حساب شعب بأكمله. وبين ليلة وضحاها أيضًا جُنّ جنون أسعار السلع الغذائية والمحروقات، العنصران الأساسيان لجريان روح الحياة!
استفاق اللبنانيون عَلى كلّ هذا وذاك؛ ليس لأن دولتهم البطلة تخوض حرب دفاع عن الوطن، بل لأن دولتهم قرّرت أن تبيع كيانهم ورزقهم، وأن تمتصّ دماءهم لتموّل جيوبها وتحقّق أهدافاً لا تمت إلى الوطن بأيّ صلة؛ وذلك وفق إيديولوجية تعنيف اقتصاديّ اجتماعيّ مدروسة بغاية الدقة والحنكة.
تدمير البشر
ممارسات العنف الاجتماعي الاقتصادي الدفينة هي السلاح الأرضى لتدمير النفوس، كي يغدو الذلّ خبزها اليوميّ المستساغ بالرغم من مرارة الطعم!
يعرّف الاقتصادي الشهير Juhan Gultang هذا النوع من العنف بأنه تهديد مباشر لصالح البشرية وحقها في العيش الكريم. إنّه يقسم العنف الاجتماعي الاقتصادي إلى ثلاثة أنواع: العنف المباشر، العنف الهيكلي والعنف الثقافي. تتداخل هذه الأنواع الثلاثة، ويغذّي كلّ منها الآخر بشكل تفاعليّ لتشكل ما يُعرف بمثلثGultang :.
العنف المباشر هو العنف المرئيّ الذي يؤدّي إمّا إلى القتل أو إلى اليأس الاجتماعي؛ كالذي يختار الهجرة هرباً من جور حكومته حتى لو كلّفه الأمر حياته!
العنف الهيكليّ غير مرئيّ، ويدخل في التركيبة الاجتماعية، حيث يتمّ حرمان مجموعة معيّنة من حق الوصول إلى حاجاتها اليومية الأساسية من السّلع والفرص والخدمات التي تضمن لها الحدّ الأدنى من العيش الكريم؛ وذلك إمّا بسبب التمييز العنصريّ أو بسبب ممارسات القمع واضطهاد الحكومات الفاسدة مثلما هي الحال بالنسبة إلى اللبنانيين اليوم الذين أصاب الاضطهاد السافر أعزّ مقومات الصراع من أجل البقاء: المال والصحة! انهيار عمودي رمى بهم في الحضيض! هذا النوع من العنف يولّد العنف المباشر كما هي الحال بالنسبة إلى المودع عبدالله الساعي الذي سحب أمواله وجنى عمره من بنك BBAC بالقوة. الساعي ضحية لم يمدّ لها أحد يد العون. إنه الواقع الذي يجب أن تعيه أيّ جهة تحاول معالجة هذا النوع من العنف. هذا الاضطهاد السافر من قبل الحكومات تترتب عليه تحديات اقتصادية اجتماعية حادّة تتمثل بالخرق الفظيع للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
العنف الثقافي هو تشريع النوعين السابقين: العنف المباشر والعنف الهيكلي، وذلك عبر تنمية إيديولوجيات ومعتقدات اجتماعية. إنها الحالة التي يغدو فيها العنف المباشر والهيكلي أمراً يستحيل تفاديه أو من المفترض علينا تحمّله. فالشعب اللبناني وجد نفسه فجأة وسط عواصف تهبّ عليه من كلّ حدب وصوب... كلّ يوم وَيْل جديد، وهمّ جديد، فأصبح عاجزاً عن وضع حدّ لما يحصل...
أين الخلاص؟
لقد دفع لبنان الكثير من الفواتير لحساب الآخرين، واستباح كثيرون أرضه، وجنّدوا شعبه بهدف تنفيذ أجندات من هنا وهناك... لكنّ هذا الوطن، على مرّ التاريخ، لم يشهد مثل هذه الاستراتيجية التدميرية للمؤسّسات والشعب على السواء.
إنّه أمر يستحيل تلخيصه بعبارات سياسيّة أو مصطلحات اقتصاديّة؛ فالأمر أكبر بكثير من مجرّد فساد حكوميّ أو هدرٍ ماليّ! إنّها عاصفة عاتية تدفع بالسفينة إلى الغرق والهلاك والموت غير عابئةٍ بأيّ اعتبار آخر... الهدف إغراق السفينة بأي ثمن!