هادي جان بو شعيا
في ظل ما تشهده القارة الإفريقية الغنية بمواردها الطبيعية من سباق دولي محموم وضعت الولايات المتحدة الأميركية لنفسها استراتيجية جديدة لمواجهة تزايد النفوذيْن الصيني والروسي في القارة وإعادة ترسيم سياستها ومصالحها في تلك المنطقة.
وقد كشفت واشنطن عن وثيقة توجيهية جديدة تأخذ في الاعتبار الأهمية السكانية المتزايدة لإفريقيا وثقلها في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى مواردها الطبيعية الهائلة. وتتضمن الوثيقة التي تحمل عنوان: "استراتيجية الولايات المتحدة تجاه افريقيا جنوب الصحراء" أربعة أهداف رئيسة تمتد لخمس سنوات:
- تشجيع الانفتاح ودعم المجتمعات المنفتحة عبر تعزيز مبادىء الشفافية وسيادة القانون ومساعدة البلدان الإفريقية على الاستفادة من مواردها الطبيعية.
- تعزيز مكتسبات الديمقراطية والأمن من خلال عدة خطوات أبرزها المساعدة على التصدي للاستبداد والانقلابات العسكرية وتحسين قدرة الشركاء الأفارقة على تقوية الاستقرار والألاقليميَيْن.
- دعم جهود تعافي الدول الإفريقية من تداعيات جائحة كورونا وإتاحة المزيد من الفرص الاقتصادية للدفع بعجلة النمو في مختلف المجالات.
- دعم الحفاظ على المناخ والتكيّف معه والتحوّل المنصف للطاقة عبر إطلاق شراكات جديدة مع جهات حكومية ومدنية ناشطة في هذا المجال.
مما لا شك فيه أن هذه الاستراتيجية شاملة وطموحة، إلا أنها تطرح جملة تساؤلات حول مدى التجاوب الذي ستبديه البلدان الإفريقية حيالها. وكيف يمكن تقييم مضامين هذه الاستراتيجية وخلفياتها؟
في حقيقة الأمر، يمكن إجراء مقاربة منطقية إنطلاقًا من ثلاثة أبعاد:
- البُعد الثنائي والذي يعكس واقع العلاقة المتردية بين جنوب إفريقيا والولايات المتحدة ومحاولة وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن رأب الصدع بينهما، خصوصًا في ظل الخلاف حول توجّه بعض المشرّعين في الكونغرس الأميركي لاستصدار مشروع قانون يعاقب الدول الإفريقية التي لم تقف في صف المعسكر الغربي بقيادة واشنطن إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا.
- البُعد القاريّ عبر تأسيس واشنطن، وخصوصًا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لإيديولوجية احتواء الصين والتي تندرج ضمن استراتيجيتها القصوى، وبالتالي يتضح أن هناك تصحيحًا أو بمعنى أوضح إعادة نظر واستدراكًا أميركيين يستوجبان خطوة إلى الوراء بهدف التركيز على القارة السمراء مصحوبًا بحزم اقتصادية واستثمارية على الرغم من كونها خجولة إذا ما قورنت بالإنفلاش والتوغل الصينيَين، الأمر الذي يتقاطع مع ما أعلنه بايدن وزعماء الدول السبع الكبار G7 قبل نحو شهرين عبر تخصيص مبلغ 600 مليار دولار كمساعدات اقتصادية للنيل من خطة الصين الماضية في اكتساح الأسواق الإفريقية على إيقاع "طريق الحرير" الذي بات يضم 160 دولة في قارات العالم برمّته.
البُعد الدوليّ، إذ يبدو أن الولايات المتحدة أيقنت حجم الاغراءات الذي تمثّله القارة الإفريقية على الصعد كافة وما تشهده من "حجّ" وتهافت الكبار إليها لاسترضائها، بدءًا بالمشروع الصيني الطموح مرورًا بالروسي وزيارة وزير خارجيتها سيرغي لافروف في تموز الماضي والذي يعوّل عليها كثيرًا، ما يعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة التي سادت القرن الماضي بين المعسكرين السوفياتي والغربي، وصولاً إلى الدور الفرنسي المتآكل في القارة على الرغم من زيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي لم تؤتِ أُكُلَها.
إذا من يقرأ بين السطور ويفنّد الكلمات المختارة بعناية فائقة التي تضمنتها الاستراتيجية الأميركية حيال إفريقيا، فضلاً عن تصريحات بلينكن التي تصبّ في خانة الآمال المعقودة والكلام الفضفاض على غرار "We will not offer solutions" لا نقدّم حلولاً أو "حول تعاون إفريقي-أميركي على مستوى التحديات المشتركة "Common Challenges"، يسارع إلى الإقرار أن محاولات الإدارة الأميركية تركز على إعادة أميركا إلى إفريقيا أكثر من إعادة افريقيا إلى الحضن الأميركي.
مما لا شك فيه، وفي ظل صراع العمالقة للظفر بقلب القارة الإفريقية، يمكن الخلوص إلى أن استفاقة الولايات المتحدة الأميركية جاءت متأخرة إزاء الأهمية الجيو-استراتيجية لإفريقيا نظرًا لما تتمتع من مضائق وممرات مائية تشكل الشرايين الحيوية للملاحة الدولية، فضلاً عن الأهمية الجيو-سياسية والاقتصادية المتمثلة بمواردها الطبيعية من نفط وغاز ومعادن نفيسة وتمكين الدول المتاهفتة لبسط نفوذها السياسي عبر قاعدة الاقتصاد يقود السياسة وليس العكس، ما يفسّر بروز الطفرة الاستثمارية والتي تقدّر بتريليونات الدولارات في البنى التحتية والصناعية والتكنولوجية ومجالات أخرى متعددة.
في المحصلة، تبرز الحاجة الماسة لدى الإدارة الأميركية الحالية وحتى المقبلة إلى مراجعة خطاباتها المتكررة والمستوردة منذ حقبة الحرب الباردة والقائمة على دغدغة مشاعر وعواطف قادة الدول الفقيرة والنامية وشعوبها وإيهامهم بنشر الديمقراطيات وحرصها الدائم على حقوق الإنسان في وقت باتت ديمقراطيتها تتلاشى، الأمر الذي يعمّق الفجوة بين الشيخوخة التي تسيطر على الخطاب الأميركي والحلول الواقعية والعملانية. ذلك أن العالم تغيّر كثيرًا يا سادة! ولعلّ النموذج الإفريقي وتصريحات عدد كبير من قادته تحاكي، تراقبا وتقاربا يعكس البراغماتية السياسية ويحاكي علوم الاستراتيجيات الاقتصادية والتنموية والتخلّي الكلي عن مفاهيم وايديولوجيات سياسية بائدة.