تعليقاً على تولي الشيخ محمد بن زايد إمارة أبو ظبي، ورئاسة الامارات العربية المتحدة، بعد وفاة أخيه الشيخ خليفة بن زايد، رحمه الله، لاحظ المراقب الغربي أن عملية انتقال السلطة في البلاد العربية تتأرجح بين انتقال سلس، كما في دول الخليج، ومضطرب، كما في غيرها، مذكراً بالانتقال الدستوري، السلمي والحضاري، في دول مجلس التعاون الخليجي، مقابل الانتقال الصعب، الدموي أحياناً، في العراق وليبيا واليمن والجزائر وتونس واليمن والسودان ولبنان. وسألني عن تفسيري لهذا التفاوت.
الجيش أو قريش!
أجبته بشرح المثل العربي: لا يحكم العرب إلا الجيش أو قريش. ذلك أن العرب، أصحاب همة وعزيمة وتطلع دائم للقيادة والرئاسة، والتباين بينهم يتجاوز العرق الى الانتماء القبلي والطائفي والمناطقي. ولذلك لا يتوافقون إلا على حكم جماعة قوية، منظمة، منضبطة، تتشكل منهم جميعاً، كالجيش، أو عشيرة حاكمة، بينها وبين الرعية عقد اجتماعي تاريخي، أثبت قدرته على تأليف القلوب، وتوحيد الصفوف، وتوفير الأمن والرعاية وفرص التعلم والعمل والنماء.
الممالك العربية
وفي الممالك العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، ساهم في تحقيق النجاح لمعادلة الحكم والرعية، التوافق الثقافي بين أبناء المجتمع بمختلف طوائفه وتياراته الفكرية على تسليم شؤون الحكم لأسرة مالكة نبتت من تربته وتشربت بمعتقداته وتكيفت مع بيئته وتفهمت تطلعاته ولبت احتياجاته. ففي المغرب والأردن، استطاعت الأسر الحاكمة مواجهة الصعوبات والتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية خلال العقود الماضية باعتمادها على تقبل الشعب ودعمه لها، وتوافق المكونات المجتمعية عليها. اضافة الى تكاتف الممالك العربية الأخرى معها.
التجربة الخليجية
وهكذا الحال في البلدان الخليجية. فالأسر الحاكمة في الإمارات، مثلاً، توارثت هذه المسؤولية جيلاً بعد جيل. وعندما أسست كيان الدولة الاتحادية، بنته على توافق مجتمعي على شرعيتها، وقناعة بأهمية التكاتف لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة، التي ستتبع الاستقلال عن بريطانيا، عام 1971. فسبع إمارات متجاورة، متماثلة اجتماعياً وثقافياً، تتمتع كل منها بحكم ذاتي، وباستمرارية النظام الاجتماعي والأسرة الحاكمة، اجتمعت على دستور ينظم علاقتها الإدراية والتنظيمية في هيكل الحكم، تكمل بعضها بعضاً، وتشكل في مجموعها دولة فدرالية، متماسكة، غنية، وقوية.
الرؤية المستقبلية
هذه ميزة، والميزة الأخرى هي الاستقرار الذي يأتي نتيجة للتوقع المسبق لمسار الحكم المستقبلي. يقول دبلوماسي ماليزي: "لو كنت مستثمراً لما أخترت بين البلدان العربية خيراً من ممالكها وإماراتها. ففي السعودية أو الإمارات مثلاً، استطيع أن اطمئن الى استقرار الأحوال واستمرار النمو والتطور في المسار ومن خلال الرؤية المرسومة عقوداً قادمة، بأذن الله. لكنني لا أستطيع أن آمن لذلك في بلدان لا أعرف ما ستمر به بحال غياب الحاكم الحالي، ولا يمكن التنبؤ بطبيعة النظام الجديد ورؤيته".
فكما في الدول الغربية والشرقية المستقرة، بحكم رسوخ أنظمتها الديموقراطية أو الاشتراكية واستقرارها، وسلاسة انتقال السلطة فيها، ومحدودية تأثير التباين المحتمل، في سياسات أحزابها الحاكمة، على الهيكل العام للحكم والقانون والاقتصاد، فإن تصور مستقبل إمارات الخليج وبيئة الاستثمار فيها يشعرك بالإطمئنان لاستقرارها ونموها وقوة بنيتها.
الاستعداد المسبق
والسر في "التنبؤية" و"الاستمرارية" يكمن في رسوخ هيكل البنية التحتية والفوقية للحكم والإدارة. وتشكل بنى متماسكة وقوية مجتمعية وثقافية وأمنية وعسكرية واقتصادية متحالفة مع السلطة الحاكمة. ففي الإمارات مثلاً، نشأت دولة عصرية، على قواعد مجتمعية وثقافية متوارثة. وبنت خلال خمسة عقود منظومة تعليمية أخرجت أجيالاً تفوقت في جميع المجالات، وساهمت بدورها في قيادة مسيرة تنمية مذهلة نقلت البلاد الى مصاف أكثر الدول تقدماً في كل المجالات التعليمية والصحية والخدماتية والاقتصادية. فمن صلب صيادي السمك والحباري وغواصي اللؤلؤ وتجار البهارات خرج جيل بنى ناطحات السحاب وهيمن على خطوط السماء وغزا أعماق الفضاء.
كما يكمن السر في الإعداد المسبق لقادة المستقبل. فالأسر الحاكمة والعائلات الرائدة والعشائر، وسكان الحضر والبادية، تستعد مبكراً وتعد ابناءها لأدوارهم المستقبلية.
فالشيخ خليفة بن زايد كما أخوه الشيخ محمد، وعدد من أمراء الخليج، أكملوا دراستهم الأولية في مدارس بلادهم قبل أن ينتقلوا الى بريطانيا لاستكمال مشروع اعدادهم في أكاديمة "ساند هيرست" العسكرية النخبوية. وبعد عودتهم عملوا في الدوائر الحكومية والعسكرية صعوداً من أول السلم حتى بلغوا أعلى المناصب. كما تدربوا على يد آبائهم وإخوانهم وخيرة المدرسين والمدربين في مختلف المجالات الإدارية والثقافية، وحفظوا تاريخ أسرهم وبلدانهم، وخدموا وعاشوا مع كل طوائف شعبهم.
بناء الأجيال
وهكذا فعلت الأسر، كبيرها وصغيرها، بإعداد أبنائها لتولي مواقع الآباء في إدارة الشركات ومشيخة القبائل والمواقع الحكومية المدنية والعسكرية، تعليماً، وتثقيفاً، وتربيةً. فكل مؤهل يدرك أن له مكاناً يحتاجه ودوراً ينتظره للمساهمة في الدفاع عن منجزات آبائه واجداده، والبناء عليها لمستقبل أبنائه.
هذا الإعداد المبكر والمكثف، وهذا التجهيز المسبق للأدوار المستقبلية، وفق خطط تنموية شاملة، هو الذي يسهل على الراصد والمستثمر والمجتمع الدولي التبؤ بثقة واطمئنان وقدر كبير من الدقة. وهذا الذي يدفعهم لبناء علاقاتهم مع دول الخليج على قواعد راسخة واستراتيجيات مستقبلية واتفاقيات بعيدة المدى.
خليفة ومحمد
خالص التعازي للإمارات العربية المتحدة قيادة وشعباً بوفاة الشيخ خليفة بن زايد، غفر الله له وأثابه عن البلاد والعباد خير الجزاء لما قدمه من إنجاز وعطاء، وبارك في أسرته وذريته، ونفع بهم وطنهم وأمتهم. ونهنئهم على تقلد أبنهم البار الشيخ محمد بن زايد، أمارة أبو ظبي ورئاسة الإمارات الشقيقة، وهو من عرفوه تمكناً وتأهيلاً وإخلاصاً، قيادة ورؤية وريادة. ووفقه وأخوته حكام الإمارات وأبناءها المخلصين لمواصلة التحليق ببلادهم الى فضاء مستقبل أجمل وأسخى وأعظم.