النهار

هادي مطر "الشجاع المطيع"
هادي مطر.
A+   A-

غسان صليبي

أصبح سلمان رشدي رمزاً لـ"حريّة الرأي والتعبير"، بعدما أهدر الخميني دمه سنة ١٩٨٩ إثر إصداره كتابه "آيات شيطانية"، الذي اعتُبر معادياً للإسلام ونبيّه، وقد منعت بلدان عدة في حينه إدخال الكتاب إليها.

قيل الكثير عن شجاعة سلمان رشدي الفكرية، التي كلّفته الاختباء لعقد من الزمن، حتى عن أولاده، لكن دون أن يمنعه ذلك من الاستمرار في التعبير عن رأيه، حتى لحظة الاعتداء عليه، قبل البدء بمحاضرته عن "حرّية الإبداع"، في نيويورك. كثيرون آخرون عُرفوا بشجاعتهم بسبب تعبيرهم عن رأيهم في قضايا مجتمعيّة حسّاسة، دينيّة أو سياسيّة خاصة، رغم علمهم بما يترتّب على ذلك من خطر على حياتهم. من أبرز هؤلاء في تاريخ لبنان المعاصر، سمير قصير ولقمان سليم، والاثنان تمّ اغتيالهما.

هادي مطر، هو الشاب الاميركي اللبناني الأصل، الذي طعن سلمان رشدي في رقبته وبطنه، قبل أسبوع في نيويورك. ورُبطت الحادثة بفتوى قتله التي أصدرها الخميني، وأشار التحقيق إلى تقارب عقائدي بين الشاب والحرس الثوري الإيراني و"حزب الله" اللبناني. وفقاً لمقابلة مع صحيفة "نيويورك بوست"، صرح مطر: "أنا أحترم آية الله (الخميني). أعتقد أنه شخص عظيم. ولن أقول أكثر من ذلك". وقال مطر عن رشدي: "لا أحبه أبداً، إنه شخص هاجم الإسلام ومعتقداتهم"، مضيفاً أنه لم يقرأ سوى صفحتين من كتاب "آيات شيطانية".

لفتني وصف صحيفة إيرانيّة محافظة لهادي مطر بــ"الشجاع المطيع"، كأنها محاولة لمنع المنادين بحرّية الرأي من احتكار قيمة الشجاعة في وجه الاستبداد والقمع. فنحن نفترض في العادة أن المطيع جبان، يخاف أن يرفض الأوامر، أو أن أن يقرّر بنفسه ماذا يريد، فيطيع.

حتى لو جاءت الطاعة عن اقتناع كما يردّد الآمر والمطيع معاً، غير أني أعتقد أن شجاعة المطيع، إذا صحّت تسميتها شجاعة، تكمن أساساً في قدرته على تطويع نفسه وإخضاعها.

يحتاج قتل الآخرين بالطبع إلى شيء من الشجاعة، كما حاول أن يفعل هادي مطر، وكما فعل قبله النيوزيلندي الذي أطلق النار على مصلّين في جامع، أو كما يفعل تنظيم "داعش" باستمرار منذ سنوات.

إنها شجاعة التجرّؤ بالقضاء على حياة إنسان آخر تنفيذاً لمشيئة الله أو خدمةً لقضية سامية. لكنّها أيضاً، شجاعة تعريض النفس للاعتقال او للقتل نتيجة محاولة قتل الآخر. هذا النوع من الشجاعة لا يتناقض في رأيي مع فعل الطاعة. فالمطيع تعوّد ممارسة هذا النوع من الشجاعة، عندما اعتدى على كرامته الإنسانيّة عبر سلب الإرادة منها، وإخضاعها لمشيئة الآخرين.

شجاعة سلمان رشدي، وكل شجعان التعبير عن الرأي، تكمن في تجاوز الخوف من الأذى والموت، من أجل مواجهة من وما يقف في وجه العيش بحريّة. شجاعة هادي مطر، وكل "الشجعان المطيعين"، تكمن في تجاوز الخوف من الأذى أو الموت، من أجل مواجهة كل من وما يقف في وجه الخضوع والطاعة، لمشيئة دينيّة أو سياسيّة.

المفارقة أن الأكثريّة الساحقة من الذين يدافعون عن رشدي، كما الأكثريّة الساحقة من الذين يطالبون بقتله، لم يقرؤوا كتابه "آيات شيطانيّة". لكن لهذه المفارقة ما يبرّرها: فالصراع الفعلي يدور هنا، ليس حول مضمون الكتاب، بل حول حريّة الرأي وعدم جواز قتل إنسان آخر بسبب رأيه.

في لبنان، انقسم اللبنانيون بين مؤيّد لهادي مطر ومدافع عمّا قام به. وهذا ما يحصل عادةً أمام كل قضيّة تطال مسألة دينيّة، وقد تعوّدنا هذا النوع من التباينات الحادة في الرأي العام اللبناني. لكن الحدث بالذات يستدعي ملاحظتين على الاقل، ترافقتا معه.

الأولى، ما أكّده رضوان عقيل على قناة "الجديد"، وهو صحافي في جريدة "النهار"، من أنه يؤيّد قتل سلمان رشدي. هذا الشخص مهنته التعبير عن رأيه في الصحافة، كما إيصال آراء أخرى الى الآخرين. فجأة يبدو الرجل منفصما كلّيّاً عن مهنته ومتنكراً لها عندما يتعلّق الأمر بالخضوع لمسألة دينيّة تطال مذهبه.

الثانية، ما صرّح به وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، تعليقاً على محاولة اغتيال سلمان رشدي. فبعدما بدأ تصريحه بأن "كل أحد وما اعتقد"، أنهاه بالقول: "وليعرف من يجب أن يعرف أنه لولا آيات الله وجهاد أبنائهم وحلفائهم ضدّ الظلاميّة والظلم والطغيان على جبهات الدم الممتدّة وسع هذا الشرق، لما بقي لنا مكان على هذه الأرض ولكان جل الرجال شهداء وكثير من النساء سبايا لدى أعوان الشيطان". الفصام هنا على مستويين. على المستوى الوزاري أولاً حيث إن الوزير يتكلم كوزير للدفاع لا كوزير للثقافة، ويحصر مفهومه للثقافة بالثقافة الدينية الخاصّة بمذهبه. وعلى المستوى المهني ثانياً، حيث إن الوزير وهو قاضٍ يحمل مسؤوليّة تطبيق القانون، والقاعدة الأولى فيه تقول أن "لا أحد يحق له تحقيق العدالة بنفسه ولنفسه". يبدو أن وزير الثقافة يسقط كل ما تعلّمه في المهنة عندما يتعلّق الأمر بالخضوع لمسألة دينيّة تتصل بمذهبه.

إن انتشار ما يشبه هذين الموقفين بين عدد كبير من المواطنين في بيئات دينية مختلفة، يهدّد بانهيار البنيان المدني القائم على القانون وتقسيم العمل. كما أن انتشاره الواسع في بيئة مذهبيّة محدّدة، يهدّد بدوره بانهيار البنيان الطائفي نفسه، هذا الانهيار الذي لن يؤدّي إلى العلمانيّة كما تتمنّى أصوات علمانيّة تسكت عن هذه الانتهاكات لثقافة الحرية، بل إلى نظام ديني.

الظاهر أن لبنان ينزلق بسرعة غير متوقّعة، من تمجيد ثقافة الحريّة إلى تقديس ثقافة الطاعة واعتبارها رمزاً للشجاعة، بغية إعطائها صدقية أخلاقية.

صرّحت والدة هادي مطر بأن ابنها زار لبنان سنة ٢٠١٨ وعاد متديّناً وانطوائياً وعزل نفسه في قبو المنزل وعاتب أمّه لأنها لم تربّه على الدين. ويبدو أنه أحبّ عزلته وأراد الحفاظ عليها الى الأبد، فقرّر الانتقال من قبو المنزل إلى قبو السجن أو المقبرة، لكن مع إعطاء معنى ديني دراماتيكي لعزلته وعدم قدرته على التأقلم في المجتمع الذي يعيش فيه. فأفضل علاج نفسي للذين يعجزون عن مواكبة الحياة، هو تقديس الموت تنفيذاً لمشيئة الله.

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium