النهار

صانع المجد
العميد الراحل رجا حرب.
A+   A-
"من التراب وإلى التراب نعود". عبارة تصلح لوصف المسيرة النضالية وحياة العميد رجا حرب، الصديق والأب والرفيق، الصديق المدافع عن الحق حتى الثمالة، والمستنير في صناعة أجمل الأبناء وأخلصهم، مثل سدّ يجمع المياه ليسقي الأرض، عاش، وأعطى حياته لها ولزرعها كأنما الدنيا تنمو ليبقى التراب مسقياً يتذكر كل يد مرت لتعطي القدرة على العطاء.
 
العسكري الفذ، الذي حارب من أجل قناعاته ودفاعاً عن أفكار مثالية جميلة أراد تحقيق بعضها، فكان قائداً لجيش التحرير الشعبي، قوات الشهيد كمال جنبلاط، مع جيل من المناضلين، رفاقه الذين وهبوا شبابهم وشيبهم في خدمة قضية وطنية إنسانية يؤمنون بها.
 
في الأمس غادر رجا حرب في موسم قطاف الزيتون، رحل قبل أن يرى "غلة" الزيت من أرض أجداده ورزقه من زيتون معمر في قريته غريفة، أشجار منتصبة كقامته تعطي الخير وتظلل بالفي وتحافظ على الأرض، تماماً كما فعل خلال عقود من حياته، مع أهله وبعدها في يومياته العسكرية النضالية إلى جانب المعلم الشهيد كمال جنبلاط، وإلى جانب صديقه وليد جنبلاط، وصولاً إلى صناعة جيل من أربعة ورفاقهم يصنعون بحياة محيطهم أجمل الأيام.
 
في الولادة شهد رجا حرب الحياة مع عائلة تعتمد على تعبها لتبني أحلامها ومستقبل أبنائها، منزل مجبول بتاريخ وقيم جبال الشوف وشاطئ البحر وهواء الحرية، والدة يضيع بوصفها بين الطيبة والحنو، وأب معماري، جبل الأرض والطين وقصّب الحجر وشقى في سبيل عيش أبنائه وتعليمهم، جهد كثيراً ليرسل رجا إلى مدرسة الانترناشونال كوليدج، قبل انتسابه إلى المدرسة الحربية ليستلم سيفه من رئيس الجمهورية شارل حلو.
 
شاء القدر على الشاب الملازم أن ينخرط بالسلك العسكري في مرحلة دقيقة وخطرة من تاريخ لبنان، ليجد نفسه كآلاف من رفاقه متمرداً على المؤسسة العسكرية التي أقسم على خدمتها في سبيل بلده، انخرط في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي في سبيل إصلاح نظام سياسي وجده ظالماً وعنصرياً، ولم يبخل في النضال لنصرة القضية الفلسطينية آنذاك.
 
في السنوات الصعبة مشى مع كمال جنبلاط قبل اغتياله، وساهم في البناء التدريجي للتنظيم العسكري للحزب الاشتراكي، والذي كان "المعلم" يعتقد بصعوبة بنائه، خصوصاً مع عدم قدرة حزبه على تأمين التدريب والمؤن والرواتب والعتاد لمقاتليه. انطلق حرب، بجانب جيل من ضباط الجيش اللبناني والكوادر العسكرية لتكوين النواة المقاتلة لما أصبح لاحقاً جيش التحرير الشعبي، والذي أمسى في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية جيشاً نظامياً منضبطاً ذا جهوزية قتالية.
 
حباً بالحياة قاتل رجا حرب وقاد رجاله، حلم بحياة أفضل لمجتمع وبلد ومنطقة عاشت سنوات من الظلم ومن حكم الطغاة.
 
دخل العميد حرب سنوات السلام بنفس الشراسة التي قاتل فيها، قناعته لم تتزحزح يوماً وبقيت راسخة بضرورة المصالحة وبناء وطن حديث بعيداً عن المحسوبيات، فدفع فاتورة عناده وروحه الصلبة، ليحرمه النظام السوري الحاكم في لبنان من رئاسة الأركان في الجيش اللبناني، رغم أنه كان مؤهلاً لها، ويملك الرتب اللازمة لملئها.
 
انسحب العميد حرب من الحياة العامة بعد تقاعده لينصرف إلى شغفه في الزراعة وتربية المواشي، التي أصبحت المدخول الأساسي له ولعائلته التي رباها على حب الأرض والصدق والشجاعة. كان العميد يمازح أصحابه ويبتسم بقوله إن "شجر الزيتون والأبقار في مزرعته تساوي كل نجوم العالم".
 
عرف رجا حرب بعناده وشراسته ولكنه كان في الوقت ذاته المحارب المحب والحريص على حياة البشر ولم يسمح للكراهية والبغض أن يعميا بصيرته بل كان دائماً ينظر إلى المحبة والمبادئ الإنسانية كنبراس علاقته بمحيطه.
 
ربما شجاعته الحقيقية كانت في عدم انجراره إلى فساد السلطة المطلقة، بالرغم من مناصبه ومغرياته، فحافظ على نظافة الكف وامتنع عن تكديس الثروات، فعاش على قدر مدخوله وربى عائلة من الفرسان على الصدق ونقاوة القلب والكف. ناضل بصمت وعاش بتواضع وامتنع عن مصادرة تاريخ غيره، أو المغالاة ببطولاته الشخصية، بل كان على العكس لا يقبل أن يأخذ الفضل على أي من مساهماته في مئات من المعارك والمناسبات، بل يحكي عن الناس المشاركين بكل شيء، ليكونوا دوماً كباراً كما أحبهم.
 
رجا حرب هو تجربة جيل - جيل المجد - عاش ومات كشجرة الزيتون، تعطي من خيرها بدون مقابل وتحافظ بجذورها على الأرض الطيبة.
 
رجا حرب انت الطيب الشجاع المقدام المفضل، وجه النصر، وصانع المجد.
 
رح اشتقلك يا سيّدنا.

اقرأ في النهار Premium