ما كان يمكن إنتاج فيلم "التحقيق المستحيل"، وهو ثلاثية توثيقية أنتجها المخرجان جيروم فريتل وصوفيا عمارة ولا أن يُعرض على قناة تلفزيونية فرنسية رسمية، قبل أن تكتمل دائرة انقلاب صورة الحزب رأساً على عقب.
والمخرجة المشاركة فيه، صوفيا عمارة، المغربية التي تزوّجت بلبناني، عاشت في لبنان 22 سنة، قضت منها ست سنوات في قرية جنوبية قبل عام من التحرير حتى حرب 2006. وكانت كمعظمنا، مع المقاومة ضد العدو الاسرائيلي.
ظل "حزب الله" منيعاً على النقد بالنسبة لها، ولكثيرين، حتى عام الحرب مع إسرائيل.
يبدو أن أنصار المقاومة ضد إسرائيل، يشعرون بالخيانة عندما يكتشفون أنهم خُدعوا من طرف نزّهوه عن كل خطيئة، فيصبح نقدهم أقسى.
هكذا يمكن فهم شغف عمارة للقيام بهذه المهمة الصعبة، أي التصدّي لكشف وجه "حزب الله" الحقيقي، الذي خذلها مثلنا جميعاً ونجح في تمويه أهدافه الحقيقية من مقاومته لإسرائيل.
كانت تتابع تغيّر وظيفته التدريجية، منذ اغتيال الحريري مروراً بهجمته على بيروت والجبل واتفاق الدوحة وانتخاب ميشال عون ووقوفه في وجه الثورة، إلى أن حصل الانفجار الكبير. منع التحقيق وتصدّى لكل مطالب بالحقيقة وهدّد قضاة التحقيق علناً.
سألت صوفيا عمارة نفسها، كالجميع، بعدما تتبّعت عرقلته للتحقيق في جريمة أكبر انفجار غير نووي في التاريخ! لماذا يحرص على هذه العرقلة بكل قواه؟
إضافة إلى أن صورته تتغيّر أيضاً لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والأوروبي خصوصاً، من حزب محترم إلى منظمة إرهابية. لكن الرئيس الفرنسي مثابر على مهادنته، حفظاً لمصالح فرنسا الاقتصادية، وينفذ شروط الحزب، وهو الوحيد الذي يتبنّى مرشحه للرئاسة. فكيف يكون الفيلم عُرض بتواطؤ أو دعم فرنسي رسمي؟
مشاهدة الفيلم تؤكد كلام صوفيا عمارة. إنه فيلم مستقل، لا علاقة له بسياسة فرنسا، موجّه في الأساس إلى المشاهد الغربي. إن تحضير عمل كهذا يتطلب جهداً توثيقياً يستغرق الكثير من الوقت، ولقد أُعدّ قبل ارتباك العلاقة الفرنسية بإيران بكثير. كما أن برمجة عرض الفيلم حصلت قبل السياسات المستجدة.
لقد تغيّرت صورة الحزب على نطاق واسع، ولأن العقليات تتغير ببطء شديد كضربات ريشة رسام، أتى هذا الفيلم في وقت أصبح فيه الرأي العام المحلي والغربي أكثر دراية بأدوار الحزب وأساليبه؛ وبالتالي مهيّأ لتقبل هذا الموضوع. إنها لحظة تجمع عوامل تكشف أدوار إيران وأذرعها التخريبية في المنطقة، خصوصاً بعد تحوّله طرفاً في حرب روسيا على أوكرانيا وتهديده لأمن أوروبا. وتزامنه مع تحريك قضيّة المرفأ، لا يعني أنه تم بتنسيق مع بعثة القضاة الأوروبيين.
كل ذلك يثير بالطبع حفيظة الممانعة ويقلق الحزب.
وبالتالي ليست شيطنة إعلام الحزب وأبواق صحافة وجمهور الممانعة للفيلم، وربطه بمؤامرة مستجدة ضده، سوى بروباغندا تستبق الإدانة الموثقة بشكل جدّي لأدوار الحزب في تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال.
لم يستجب الفيلم لتوقعات المشاهد اللبناني الذي ظن أن الفيلم نوع من محاكمة ستدين الحزب في انفجار المرفأ. الفيلم لم يحمل جديداً للمشاهد اللبناني المطّلع على ما يجري في ما يتعلق بالانفجار، وجاء ليؤكد ما يرجحه أن الحزب يعمل في تجارة المخدرات والسلاح وأنه من خزّن الأمونيوم. وسرديات كل من مروان حمادة وأشرف ريفي ومونيكا بورغمان (زوجة لقمان سليم) قد سمعناها من قبل.
لقد اعتمد الفيلم سردية لقمان سليم لتسلسل الوقائع في فيديو تلفزيون الحدث قبيل اغتياله. كان لقمان أول من قام بربط الأحداث في كيفية مجيء باخرة الأمونيوم وتزامنها مع العقوبات على بشار الأسد ومن ثم التفجيرات في سوريا مع تواريخها.
لقد أُعدم لقمان إثر هذا التصريح، الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير. بعد تراكم مآخذهم على نشاطاته.
الانفجار هو المحفز لاختيار فكرة الفيلم، بما أنه تتويج لنشاطات "حزب الله" في لبنان. لكن أهميته تكمن في شهادات الضبّاط الأميركيين من جهاز مكافحة المخدرات DEA ودور عملية كاساندر. فخلال متابعتهم لتجارة المخدرات في كولومبيا أدهشهم سماع الكثير من المداخلات باللغة العربية. حينها بدأوا تتبع الخيوط التي سمحت لهم بكشف مدى عمق نشاط "حزب الله" في تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال، موزعاً على 4 قارات. وبدأوا يتتبعون ويراقبون حركة دخول الأموال إلى لبنان. وسجلوا قفزة مصرفية كبيرة عام 2002. إنها أموال المخدرات.
كذلك اكتشفوا علاقته بتفجير سبتمبر 2001، ودوره في محاربة الأميركيين في العراق. عندها أعلنت كاساندر الحرب على الحزب واعتبرت أعضاءه إرهابيين. وكشفوا أدوار من يسمّيهم الحزب Facilitateur على غرار Bosse للمافيا وTête de cellule للكارتيل. وهم أمثال شاكر حرب وأيمن جمعة وأدهم طباجة وعلي فياض الذي كان يوفر السلاح لبشار الأسد. وكلما انكشف أحد هؤلاء كان ينزل تحت الأرض، يختفي. ولوحظ أنه كلما اشتدت الحرب نشطت تجارة المخدرات.
لم يكن سهلاً على رجال DEA جمع مكوّنات البازل الشديد التعقيد، فلقد نشط عملاء الحزب تحت غطاء مئات الشركات والمجموعات الصغيرة وبشكل سري وتوصلوا لجمع أكثر من مليار دولار سنوياً.
نجحت الفرقة عام 2015 في الوصول الى الرأس الكبير Parrain الذي ينقل رغبات إيران إلى الحزب. وهو أحد أعضاء العائلة المالكة في قبيلة حزب الله (على حدّ تعبيرهم)، ويدير أموال الوحدة المالية (أو المجموعة الشبح) لتبييض الأموال من العراق إلى أميركا وأوروبا ولجميع النشاطات غير الشرعية. إنه عبد الله صفي الدين، أخو صفي الدين وريث حسن نصرالله.
المفاجأة أنهم عندما وصلوا إلى نهاية عملهم وانتظروا مكافأتهم، جاءت لحظة الاتفاق النووي عام 2015 مع إيران، التي كانت تشتكي منهم ومن نشاطاتهم وطالبت أوباما بإبعادهم. أوباما كان يأمل اتفاقاً طويل الأمد مع إيران معتقداً أن ديبلوماسية أميركا ستغيّر العالم وتجعله أكثر أمناً بهذ الطريقة! فترك المال والسلاح بيد إيران. ما أوصل تهديدها إلى عقر دار أوروبا التي هادنتها طويلاً.
وقبل أن يجف حبر الاتفاق جاء روحاني لزيارة باريس، التي لم يزرها أي رئيس إيراني منذ 17 عاماً. طبعاً عدّت الديبلوماسية الفرنسية الزيارة نصراً مبيناً.
في اللحظة التي كان فيها فريق DEA على وشك الإعلان عن الرأس الخفيّ لـ"حزب الله"، منتظراً الاحتفال بنجاحه في مؤتمر صحافي؛ ألغي المؤتمر فجأة بتعليمات من البيت الأبيض. توقفت عملية كاساندر، وتبعها تحرير علي فياض تاجر السلاح من السجن في تشيكيا وعاد إلى لبنان. لم يصدّق الفريق ذلك!!
لقد فشلت الحكومة الأميركية. بعد أن صار الأمر دقيقاً للغاية بالنسبة إليها، أوقفت كاساندر. يعلق جاك كيللي: كلما صعدنا في السلم صار الأمر أكثر خطورة. ضحّوا بالحقيقة على مذبح السياسة، فذهبت أشرب كأس نبيذ أحمر.
دفنت عملية كاساندر على مذبح السياسة الواقعية، من أجل أمل بالسلام مع إيران بدل فضح "حزب الله".
أما في ما يتعلق بتفجير المرفأ، فالأضاحي والحقيقة ذُبحوا على مذبح السياسة الدولية وخنقت الحقيقة والعدالة.