لم تجمع الأمة العربية أو تفرّقها قضية كما فعلت القضية الفلسطينية. فعبر قرن من الزمان، منذ وعد بلفور المشؤوم بمنح اليهود حق الهجرة الى فلسطين وإقامة وطن دائم (1919)، وإجماع العرب ومعهم الأمة الإسلامية والدول النامية، على معارضته، وحتى صفقة القرن والانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، غلب التيار الداعم للمواقف الفلسطينية المتعددة والمتضاربة على تيار التطبيع والنأي بالنفس، وأخيراً موجة "فلسطين ليست قضيتي" و"وطني هو قضيتي الأولى والأخيرة".
أوجه الخلاف
ومن أسباب التباين في المواقف العربية، الخلافات العربية - العربية، والفلسطينية - الفلسطينية، وطول أمد القضية ما أخرج أجيالاً لم تعش وتتفاعل مع أبرز حوادثها من الهجرة اليهودية، الى التقسيم فالنكبة والنكسة والانتفاضة. بل أدركها الوعي على الخلافات العربية بشأن تطبيع مصر السادات مع إسرائيل، وتوقيع معاهدات السلام المصرية، فالفلسطينية، فالأردنية، وحتى الإماراتية والبحرينية والمغربية والسودانية، والعلاقات الظاهرة والمستترة لمعظم الحكومات العربية.
ولا شك في أن الخلافات الداخلية في البيت العربي أوهنت التضامن المنشود مع قضية القضايا، فمن ناحية تشكلت في الساحة الفلسطينية عشرات المنظمات والجماعات والحركات المتناحرة، وكل منها يدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني، والجهاد في سبيل تحرير الأرض. وتبنى المعسكران الشرقي والغربي في عز الحرب الباردة وحتى اليوم، هذا الفريق أو ذاك، وحاربا الطرف المقابل. وكان المعسكر السوفياتي هو المبادر لدعم التيارات الفلسطينية، واليسارية منها بخاصة، بالمال والسلاح والتوجيه، نكاية بالمعسكر الأميركي.
الأخطاء الفلسطينية
وأدت الطموحات والأخطاء السياسية والتعديات المليشياوية الفلسطينية الى فقدان الفلسطينيين مكانتهم وحضورهم القوي في الأردن ولبنان والكويت ومعها الخليج، فكسرت شوكتهم في الأولى بعد مواجهتهم للجيش الأردني، وأهدر دمهم في الثانية بعد انخراطهم في الحرب الأهلية، وفقدوا نفوذهم في الثالثة نتيجة دعمهم الغزو العراقي.
وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي وخروج الجمهوريات الماركسية من معسكره، وانضمام أكثرها الى الناتو أو الاتحاد الأوروبي مع التخلي عن الشيوعية وتبني الرأسمالية الغربية، تراجع الدعم للميليشيات والجماعات الفلسطينية الموالية، وألقت منظمة التحرير الفلسطينية الجامعة للحركات الأقل تطرفاً ويسارية السلاح، ورفعت غصن الزيتون، وتخلّت عن مشروع التحرير الكامل لفلسطين، وقبلت بما خوّنت مصر عليه من القبول بالتقسيم وبقاء الكيان الصهيوني على معظم الأراضي الفلسطينية، وما سُمّي بحل الدولتين على أساس حدود 1967.
درب السّلام
بهذا كسبت المنظمة القبول في المعسكر الغربي، ووقّعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، في 1993 برعاية الولايات المتحدة، ومضت على درب أعطاها صلاحيات محدودة لحكم ذاتي في أراض متفرقة ومتباعدة، وتحت الهيمنة الأمنية والعسكرية والاقتصادية الإسرائيلية، مع تآكل متزايد للأراضي التي لم يتم الاتفاق عليها في الضفة الغربية والقدس الشريف.
ثم اختلف الفلسطينيون مرة أخرى باستيلاء "حماس" على الحكم في غزة، وتبني أجندة سياسية مختلفة لمشروع السلام، وبناء علاقات دولية متباينة مع الرئاسة الفلسطينية، تقوم على أساس المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني، وترسيخ العلاقة العضوية والاستراتيجية مع إيران وحلفائها العرب على حساب علاقتها مع معظم الدول العربية.
وهكذا وجد العرب أنفسهم مرة أخرى منقسمين في تبنيهم المواقف الفلسطينية والتيارات المتناحرة. فكما تبنت حكومات مصر والعراق وسوريا وليبيا والسودان، في الستينات، الحركات اليسارية المتطرفة، تبنى المعسكر المحافظ في الخليج والمغرب والأردن وتونس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. وفي السبعينات خرجت مصر السادات من محور "الصمود والتصدي" وغسلت يدها من القضية برمّتها، بعد اتفاقيات كامب دايفيد (1978)، ثم عادت في التسعينات الى دعم مسيرة التطبيع الفلسطينية التي انطلقت في مدريد، مروراً بأوسلو وحتى واشنطن.
الثّورة الخمينيّة
وعام 1979 دخلت إيران على الخط، بعد الثورة الخمينية، وتحالف الإخوان المسلمين معها. ودعمت طهران تيار المقاومة ممثلاً بـ"حماس"، والفصائل الإسلاموية الغزاوية، التي دخلت رسمياً في محور المقاومة الذي يضم سوريا الأسد وليبيا القذافي وسودان البشير و"حزب الله" لبنان. وفي المقابل، استمر عراق صدام حسين في دعم التيارات الثورية المناوئة، وبقي الخليج ومصر والأردن والمغرب وتونس على دعم منظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا استمر الخلاف الداخلي إقليمياً وفلسطينياً في تشتيت وإضعاف الموقف الفلسطيني الدولي، وأعطى إسرائيل العذر في تعطيل قطار السلام وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على محطات القدس والاستيطان والحصار العسكري والأمني والاقتصادي.
وفي كل مرة كانت النّخب الفلسطينية مع جماهيرها تنحاز إعلامياً وفكرياً مع هذا التيار أو ذاك، ولا تكتفي بالانخراط في الصراعات الأيديولوجية الداخلية، بل تمتد نيران قصفها الى الخارج، فتقاتل في صف داعمها العربي والدولي ضد غيره من الداعمين. وبالتالي انقسم العرب والعالم في مواقفهما تجاه "القضايا" الفلسطينية المتماهية مع الشتات الفلسطيني الخارجي والتمزّق الداخلي.
التّباعد العربي
ولذلك لا نستغرب اليوم تكرار المشهد على الساحة الفلسطينية. فبرغم أن للقدس مكانة خاصة في وجدان العرب والمسلمين، وأن معظمنا ينحاز الى الدفاع عن أولى القبلتين ويتألّم لمعاناة إخوتنا في فلسطين، ولا يقبل بهضم حقوقهم والتعدي عليهم من كيان محتل غاصب، إلا أن هناك تياراً لا يُستهان به لم يعد يقبل بالجحود والتنكر لأكثر البلدان العربية دعماً للقضية والانحياز الى أعدائها وتنمّر حزمة واسعة من الخطاب الفلسطيني الرسمي والحزبي والشعبي ضدّها. وكرد فعل عاطفي، تحول التّغاضي الشعبي عن فساد القيادات الفلسطينية وخيانتها تركيزاً شديداً عليها، والتسامح مع التجاوزات الخطابية لفئة لا تمثل الشعب الفلسطيني كله، رداً عاصفاً عليها بلا تمييز، وتغيّر الدعم المبدئي للقضية تخلياً جزئياً أو مطلقاً. وساهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الحي مع غياب الرقابة والترشيد في استفحال الجدل وخروجه عن النص.
الحلّ العاجل
الخوف أن تتسع الهوة مع الوقت وتصاعد نبرة الخلاف بين الأشقاء، وأن يتعمّق الجرح ويرسخ العداء في الذاكرة الجمعية حتى يصل الأمر الى قطيعة بين العرب وقضيتهم الأولى، ويتحوّل اهتمام الأجيال الجديدة الى قضاياهم الوطنية أولاً، ثم القضايا المستجدّة المهددة للأمن القومي، كالتغوّل الفارسي والعثماني. واعتبار القضية الأم مسألة خلافية سياسية تترك للمؤسسات الدولية المعنية. وأن يطلب من الفلسطينيين الاعتماد على أنفسهم في تحرير بلادهم، كما فعل نظراؤهم من العرب والأفارقة والآسيويين والجنوب أميركيين، في وجه الاستعمار، وأن لا ينتظروا من العرب أكثر من الدعم الدبلوماسي والمعنوي لما يتفقون عليه.
والحل في تدخل فوري للعقلاء العرب والفلسطينيين من القيادات السياسية والثقافية والمجتمعية، لمواجهة هذه الظواهر قبل استفحالها ووصولها الى مرحلة الانقسام التام. فالقدس لنا، وفلسطين عربية، ولا مكان لرعاة الإرهاب والفتن ومطايا العجم بيننا.