يروى أن مدينة كانت تعاني من نظام المواصلات التي تربطها بالمدن والبلدات المجاورة. المشكلة أن الحافلات والناقلات التي تقوم بالرحلات اليومية مرهقة بتراكم السنين وكثرة الصيانة والتعديل، وتعدد السائقين والمهندسين والإداريين… وبالفساد. ولذلك تتأخر أحياناً وتتوقف أخرى، وترتفع قيمة تذاكرها بين حين وآخر، وخاصة في السنوات الأخيرة. وقد أثر ذلك على تكلفة المعيشة وسهولة التنقل وحياة الناس اليومية.
تغيير النظام
انقسم السكان بين من يرى ضرورة التغيير الشامل، واستبدال القائمين على المواصلات بغيرهم، خاصة السائقين الذي كبروا في العمر، وثقلت ظهورهم وكثرت أخطاؤهم. ولم يعودوا بيقظة ونشاط الشباب التي كانوا عليها يوم طوّروا النظام الحالي، ووضعوا أسس الإدارة القائمة، وفكوا ارتباطها بمراكز القوى، خاصة الأمنية. ويوم أنهوا تدخل العسكر والسياسين وغير المتخصصين في شؤون المدينة وإدارة المواصلات فيها.
ويرى المطالبون بضرورة إحالة الجيل السابق الى التقاعد، مع الشكر لما قدّمه، والمحاسبة على ما قصر فيه، واستبدال النظام كله بنظام جديد أكثر حداثة وصلابة، نزاهة وشفافية، إبداعاً وحيوية. ومعالجة تركيبته جذرياً وتفصيلياً بما يضمن التوافق مع الأنظمة المتبعة في المدن الأكثر تقدماً، وخاصة تلك المجاورة والأكثر تشابكاً وترابطاً مع مدينتهم جغرافياً، واقتصادياً، وثقافياً ومجتمعياً.
عيوب المعارضة
وهناك قسم أكثر تحفظاً وخبرة يرى أن التغيير لا يتم بدون التثبت من كفاءة البديل، وأن المشاريع المطروحة من المعارضين والمجددين ومرشحيهم لا ترقى الى وحدة الفكرة، والعمل، والوضوح، المتوافرة لدى الإدراة الحالية، التي أثبتت خلال عقدين قدرتها على العطاء والتجدد والاستمرار، بنفس القيادة، ونفس المشروع، ونفس الأهداف.
ولاحظوا أنه ليس بين أطراف الفريق المتوثب للإحلال التناغم والتوافق المطلوب، وكلٌ يغنى على ليلاه.
فهذا قروي بسيط التعليم، وذاك أستاذ جامعي، وهذا شاب يساري الهوى، لا خبرة له في شؤون الإدارة، أو حتى الحياة، وذاك عالم دين حلوله كلها ماضوية، وعلومه أرشيفية. وهناك السياسي المحنك، يقابله الصحافي المؤدلج. والبيروقراطي العتيق مع رجل الأعمال الدولي، وكلاهما أفنى عمره بين أروقة السياسة والمال والأعمال، ولكن بدون رصيد إنجازات يُذكر في مجال الإدارة الحكومية.
وبين هذا وذاك كل ألوان الطيف الفكري والديني والمؤسسي. وليس هناك تاريخ حافل لعمل مشترك، أو إنجاز باهر، أو خبرة إدارية، أو حتى برنامج واحد وفكر واحد وقيادة واحدة.
الاستقرار والتجربة
وفي المقابل، يرى المحافظون، امتلاك الإدارة الحالية في رصيدها الطويل عقوداً من الخبرة والتماسك والإنجاز. ورغم ترهّلها في السنوات الأخيرة، والخلافات التي فكّكت بعض ترابطها، وتهم الفساد وسوء الإدارة، تبقى صاحبة مشروع واضح، تحقق منه الكثير على أرض الواقع. نظامها (رغم تعقيداته وتثاقله) ما زال يعمل، ومركباتها (رغم التقادم والعيوب) لا تزال تجري كل يوم، وفريقها (رغم التباين وانسحاب بعض أعضائه) لا يزال متناغماً، مترابطاً، وصاحب برامج واقعية، وإنجازات حقيقية، وقيادة موحدة.
وبناءً على ذلك، يرى القسم المحافظ من السكان، وهم أغلبية، أن تبقى الحال على ما هي عليه، في المرحلة الحالية، مع المطالبة بالإصلاح والتطوير والتطهير، بالتدريج، وأن تعطى لأصحاب البدائل والحلول النظرية والأفكار التقدمية والروح الحماسية فرصتهم للتوافق بينهم، والاتفاق على خطة عملية واحدة، يمكن تطبيقها بالإمكانات المتاحة، وبالمستوى المطلوب. وعندما يتحقق ذلك، بعيداً عن الخيال والتنظير، يمكن التدارس مرة أخرى في مطالبات الإحلال والتغيير.
"المستنيرون" يرون
القسم المعارض من السكان، وهم أغلبية، يعتبرون أنفسهم من طبقة ”مستنيرة“ ومتوثبة، متحررة ومنفتحة. وهم يصرّون على أن استمرار الحال من المحال، والتغيير بطبيعته له مخاطره، إلا أنها مخاطرة مقبولة، ومخاض محتمل، في سبيل حياة أكثر مواكبة لوتيرة الحاضر الكوني، وأكثر قدرة للتسابق على مسار المستقبل. والحلول وإن كانت نظرية حالياً، فإنها تتشكل مع الأيام، وقابلة للتحقيق، وتجارب المدن الأخرى تثبت ذلك. ومهما كان الثمن الذي ستدفعه المدينة وأهلها اليوم، سيكون أرحم من الثمن الذي سيدفعه الجيل القادم، فقطار التاريخ يمضي بأسرع من قدرة الإدارة الحالية على النموّ والتحول والتطوّر، وبالتالي اللحاق بالركب العالمي.
ويعترف هذا القسم بوجود اختلافات في المنطلقات والرؤى والقيادات بين المجموعات المتحالفة، إلا أنها مسألة طبيعية لا تختلف عن أي واقع أي ائتلاف في أي مدينة أخرى. والمهم أن الجميع متفق على ضرورة التغيير للأفضل، وإصلاح النظام السائد. وفي النهاية سيتمخض هذا الحراك عن برنامج عملي وقيادة قادرة على تحقيق الأهداف، بتعاون أهل المدينة وتكاتفهم، وصبرهم وثباتهم، ودعمهم وتأييدهم.
شبكة متداخلة
الخلاف والاختلاف ليسا حالة محلية، منبعها ومؤثراتها وتداعياتها تخص المدينة وحدها. فالمدن والمناطق المحيطة، خاصة الأكثر ثراءً وتأثيراً، لها مصالح مشتركة، وعلاقات قوية مع هذا الطرف أو ذاك. والمدينة جزء من شبكة المواصلات والمنظومة الإقليمية والدولية. وأي تقلبات أو تغييرات محلية، غير مدروسة أو محسوبة، وغير متفق عليها مع محيطها، تؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على كل ذي صلة ومصلحة في الداخل والخارج.
ولأن نظم المواصلات في المناطق الأخرى تمر هي الأخرى بمراجعات بعضها جذري، وتواجه تحديات بعضها أصعب، فإن الحالة، حالياً، تتطلب نظاماً متماسكاً، صعباً ومعروفاً. يسهل التعامل معه والاعتماد عليه. وفي غياب البديل الأفضل والأضمن، فقد قرر الجميع، حتى المختلفون منهم، دعم الوضع الحالي، والترحيب بمبادراته التوافقية، وتنازلاته الشجاعة، والعمل معه على تحسين الشبكة الداخلية وحل إشكاليات الشبكة المشتركة.
من القصر الى القبر
أما قادة النظام الحالي، فالمسألة بالنسبة اليهم حياة أو موت. فخروجهم من الإدارة، وتسلّم إدارة مناوئة للسلطة، يعني فتح ملفات قديمة وجديدة، ورفع قضايا دعاوى تتعلق بمخالفات نظامية ومالية، قد تنتهي بخروجهم الى السجون لا البيوت، وتلحق بتاريخهم الموسوم بالإنجازات والنجاحات الخزي والعار. وتقلب عليهم صفحات التاريخ التي يكتبها، دوماً وأبداً، المنتصرون، من أصحاب السلطة والمال، والبوق والقلم. ولذا فسيعملون المستحيل، ويقدّمون التضحيات والتنازلات، ويقومون بالمراجعات والتصحيحات، ويعملون على تصفير المشاكل وتوفيق المواقف مع المؤثرين في الداخل والخارج.
وقصص من خسر كرسيّه، فخسر مصالحه، أو حريته، أو حياته، وانتهى الى هامش التاريخ، حاضرة ومتكررة ومؤلمة، حاضراً وماضياً، في كل المدن القريبة والبعيدة. ومن لا يعتبر بغيره يعتبر به غيره، "فما أكثر العبر وأقل الاعتبار".
الفوز المضمون
وبناءً على ذلك، فقد توافقت القوى والظروف والمصالح المحلية والخارجية على التجديد للإدارة الحالية. فما يجري في المحيط من تحولات وتقلبات، وما يخطط له من مواجهة وتغيير، وما ينتظر اندلاعه من صراعات وثورات، يتطلب تمكين المدائن المستقرة، والقيادات القوية، والشركاء المجرّبين.
وتفاعل الإدارة الحالية مع الأحداث، وتجاوبها مع مع المخططات الدولية للحل، وقدرتها على لعب الأدوار المحددة لها، وتحقيق النتائج المطلوبة منها، تجعلها الخيار، لا الأفضل فحسب، بل الوحيد. فالبديل مفكك، تائه، وضعيف. ليس له تاريخ يمكن البناء عليه، أو حاضر يمكن الاطمئنان إليه، أو مشروع مستقبل يمكن التفكر فيه.
هذه القصة تمثّل حال حزب العدالة والتنمية في تركيا والرئيس رجب طيب اردوغان. وموقف الناخبين تجاه الانتخابات القادمة. والتي ستكون تصويتًا على أداء الإدارة والحزب في السنوات الأخيرة، مقابل التحالف الهشّ الذي يجمع أحزابًا غير مجربة وغير متّفقة، وتفتقد لقيادة موحّدة، وشخصية معروفة، لها شعبيتها وتاريخها.
التوقّعات تشير إلى عدم وجود معارضة قوية، متماسكة ومنسجمة، أو برنامج واضح مطمئن. والخوف يجمع المتردّدين والمعارضين لسياسات الحزب الحاكم من البديل الغامض، في خضمّ التحدّيات التي يمرّ بها العالم، والمنطقة، وتركيا.
إذن، هل نقول مباركًا التجديد للرئيس اردوغان وحكومته وحزبه؟ ربما كان الوقت مبكرًا لحكم جازم، حازم، فالمفاجأة في مواسم الانتخابات واردة.
في كلّ الأحوال ندعو للفائز بالتوفيق والنجاح في المرحلة العاصفة، الصعبة، الحرجة، القادمة.
@kbatarfi