أعدت قراءة تصريح نصرالله مرات عدة، وقارنت ما جاء في الصحف على لسانه في خطبته الأخيرة، للتأكد من صحة ومن دقة ما نقلته. فصحيح أنني انتقد مواقفه وسياسات حزبه، لكنني كنت أجد في خطبه منطقاً داخلياً، حتى ولو لم أكن أوافق على المسلّمات التي ينطلق منها. إما ما قاله في خطابه الأخير، فبدا لي فاقداً لأي ترابط منطقي، والأخطر من ذلك، رصدت فيه تشويهاً لصورة مقاومته وبيئته الحاضنة على حدّ سواء. وهذا ما استغربته، وسألت العقل عن أسبابه في العنوان الذي اخترته لنصي.
قال نصرالله بالحرف، مخاطبا الأميركيين: "اذا دفعتم لبنان إلى الفوضى، فعليكم أن تنتظروا الفوضى في كل المنطقة وفي مقدمتها ربيبتكم اسرائيل. فكما كنا جاهزين للحرب دفاعاً عن نفطنا، فنحن جاهزون لمد أيدي سلاحنا الى اسرائيل. اذا أمسكتم بنا من اليد التي توجعنا وهي ناسنا، سنمسك باليد التي توجعكم وهي اسرائيل، وإن غداً لناظره قريب".
ينطلق نصرالله من مسلّمة أن أميركا تريد دفع لبنان إلى الفوضى. أتقبل ذلك كفرضية وليس كمسلّمة، لأنه صحيح ان التجارب العالمية تعطينا أمثلة كثيرة حول تورط أميركا في أفعال شنيعة كهذه، لكن لا مؤشرات ملموسة تؤكد لنا نيّتها القيام بذلك اليوم في لبنان. وقد ربط البعض تهديد نصرالله بما سُرّب عن نية أميركا معاقبة حاكم مصرف لبنان لعلاقات مالية مشبوهة مع "حزب الله"، أو بحاجة ايران للرد على الضغوط الغربية المتعاظمة.
نصرالله صعّد في لهجته، وهدّد بالحرب، في موقف مُستغرب في ظل واقع الانهيار الذي يعاني منه لبنان. اعتدنا أن يتخذ نصرالله مواقف لا تأخذ في الاعتبار ظروف البلاد. غير ان استغرابي هذه المرة، مصدره مسألة أخرى، إذ انه اعتاد أن يوجّه "مقاومته" صوب العدو أو الخصم الذي يشكل بالنسبة له تهديداً مباشراً، صوب اسرائيل أو خصومه السياسيين في لبنان، أو المعارضة السورية في سوريا مثلا. هذه المرة، اتهم أميركا بالسعي لنشر الفوضى في لبنان، لكنه قرر أن يرد بشن حرب على اسرائيل، أو بتعميم الفوضى في المنطقة.
لم يطرح أبدا إمكان مواجهة أميركا في لبنان، عبر الرد على احتمال الفوضى، من خلال تدعيم ما يمنعها أو يحد منها: انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة تعالج مسبّبات الأزمات المتراكمة، وغيرها من التدابير التي يستطيع أن يحث على القيام بها، والتي يمكن ان تعيق تسلل الفوضى الأميركية المفترضة. لا سيّما انه صاحب النفوذ الأكبر في لبنان، على المستوى السياسي والعسكري والمالي. فأي "مقاومة" هي هذه، التي تهرب من المواجهة المباشرة مع العدو، وتلجأ الى الحروب هنا وهناك؟ كيف يمكن ان تواجه الفوضى بافتعال أسباب جديدة توسّع مساحة هذه الفوضى، وتعقّد لملمتها؟
عكس الفوضى هو تطبيق النظام، وليس افتعال الحروب. والنظام في لبنان يقوم على تطبيق الدستور لا تعطيله، وعلى تطبيق القوانين، وليس تعميم مخالفتها وتهديد القضاء. اقل ما يقال في هذا المجال، إن نصرالله في خطابه الأخير يشوّه مفهوم "مقاومته"، الى حدّ الترويج لنقيضها.
لن أتوقف عند قول نصرالله إن اليد التي توجعه، هي "ناسنا"، وليس شعبه اللبناني ولا وطنه لبنان، فهذا ليس بالجديد ولم يعد بالمُستغرَب. المُستغرب هو لجوؤه الى مقارنة، قد يستنتج منها البعض، أنها تحمل في خلفياتها اللاواعية، نظرة سلبية الى بيئته الحاضنة. فعندما يقول "اذا امسكتم بنا باليد التي توجعنا وهي ناسنا، سنمسك باليد التي توجعكم وهي اسرائيل"، يشبّه علاقته بناسه بعلاقة أميركا بإسرائيل، التي وصفها بأنها ربيبة أميركا. فهل يمكن أن يقصد، أن ناسه هم "ربيبته"، كما أن اسرائيل هي ربيبة أميركا، مع أنه يعتبر أن "مقاومته" هي وليدة "ناسها" وليس العكس؟ وهل هو يستخدم "ناسه" في معاركه، كما تستخدم أميركا اسرائيل في معاركها في المنطقة، أم هو على العكس يعبّر عن تطلعات "ناسه" كما يكرر دائماً؟
ما الذي جعل نصرالله ينزلق الى هذه المقارنة غير الموفقة، المحرجة له والمزعجة لبيئته الحاضنة؟
لاحظ معظم اللبنانيين، أن نصرالله لم يعد مقنعاً، في خطاباته الاخيرة. ولا أعتقد أن المشكلة هي في وهن ذهني عند الرجل، بل في خواء القضية المحقة التي كانت تغذي أفكاره. فبعدما فقدت "مقاومته" مع الزمن مبرراتها الوطنية، وتحولت إلى أداة لتحقيق أغراض إقليمية، راحت تضمر شيئاً فشيئاً الاعتبارات التي كان يستطيع من خلالها تبرير مواقفه. ولا بدّ لهذا الضمور أن يغرق رجلاً، حتى ولو كان في ذكاء نصرالله، في متاهات فكرية لا يتقبلها العقل السليم.