النهار

تونس في "متاهة الدساتير" وأهمّية دستور قرطاج
المصدر: النهار
تونس في "متاهة الدساتير" وأهمّية دستور قرطاج
أنصار للاتحاد العام التونسي للشغل خلال تجمع خارج مقره في تونس العاصمة (16 حزيران 2022، أ ب).
A+   A-
هشام الحاجي 
 
لا يثير مشروع الدستور الجديد الذي سيطرحه الرئيس التونسي على الاستفتاء الشعبي في تموز المقبل الكثير من الاهتمام ولا يغذي آمالاً كبرى، لأن كيفية إعداده المتسرّعة والفوقية والتي لا تخلو من غموض تثير مخاوف تنمّيها تصريحات رئيس اللجنة المشرفة على عملية الصياغة الصادق بلعيد التي لا تبعث على الاطمئنان. 
 
وتضاف تجربة صياغة دستور "قيس سعيد" إلى تجربة دستور 2014 الذي كان وليد نقاش واسع ولكنه موجّه لأن أهدافاً خفيّة تحكمت فيه من أهمّها عدم تجريم التطبيع وفرض منطق "الرئاسات الثلاث" الذي يحبّذه "الراعي وراء المحيط" لأنه ينقل الدول العربية من دول عاجزة ومتخلفة إلى دول مفكّكة وفاشلة وهو ما يجسّده عراق ما بعد الغزو ولبنان الذي يواجه الضغوط. 
 
دستور 2014 قادته رغبة حركة النهضة في تفكيك أسس ودعائم دولة الاستقلال وفي وضع اليد على أجهزة الدولة. ولا يبدو الدستور المنتظر أوفر حظاً في ما يتعلق بالرغبة في تحويل اللحظة الراهنة إلى "مشروع أبدي رغم غياب الحد الأدنى من مقوّمات الاستمرارية والتواصل. وحتى دستور الجمهورية الأولى الذي وُقّع سنة 1959 تحوّل، بعد سنوات من إعلانه، إلى عائق لتطور الحياة السياسية خاصة بعد أن وقع إخضاعه لرغبات الحبيب بورقيبة في البقاء في السلطة مدى الحياة. 
 
يمكن القول إن الفكر السياسي التونسي يعيش على وقع مفارقة تتمثل في أن "الشغف بالدساتير" و"عراقة التجربة الدستورية" في تونس لم يحولا دون أن تكون الدساتير حاملة في ذاتها أسباب فقدان دورها و"مشروعيتها". في العصر الحديث كانت تونس سبّاقة، في محيطها العربي- الإسلامي، في وضع دستور لتنظيم العلاقة بين السلطة و"الرعايا" بما شكّل انبثاقاً جنينياً لمفهوم "المواطنة" لأنه كان أول نصّ يمنح السكان حقوقهم الأساسية في الامن على أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم.
 
ولكن "عهد الأمان" الذي وُقع إعلانه يوم 10 سبتمبر 1857 لم يصمد طويلاً وكان إعلانه في سياق فساد سياسي وأزمة اقتصادية حادة سبباً من أسباب عدم قدرته، رغم مضمونه الايجابي، على أن يعيش طويلاً خاصة أن مضاعفة ضريبة المجبى سنة 1864 كانت وراء ثورة شعبية عارمة وأوجدت في الوجدان الشعبي ارتباطاً بين "عهد الأمان" وتفقير الشعب، وهو ما جعل من إلغاء العمل به مطلباً شعبياً.
 
هناك عبر تاريخ تونس الحديث ظاهرة "سطو اللصوص" على "أعلى النصوص". هناك من همّش الدستور للسطو على السلطة ومن وظّفه لوضع اليد على الثروات. وهناك ظاهرة لم ينجُ منها إلّا دستور 1959 وتتمثل في حضور واضح لضغوط أجنبية لفرض فصول معيّنة وحتى دستور الجمهورية الثالثة المنتظر فإن من الصعب الاقتناع بأن إلغاء أسس "الدولة الراعية" بعيد عن محاولة إرضاء صندوق النقد الدولي. 
 
ولا شك في أن القراءة النصية التي تركز فقط على الجوانب القانونية، غالباً ما تعجز عن تحديد أسباب عدم الاستقرار الدستوري الذي تعيشه تونس والذي يمكن إرجاعه إلى محدّدات سوسيولوجية وأنثروبولوجية. من أهم المحدّدات في هذا المجال طغيان منطق البداوة بما تحيل إليه من علاقة عدم استقرار مع الزمان والمكان على منطق التمدّن الذي يؤمن بالاستمرارية وبأهمية المؤسسات.
 
ويضاف إلى ذلك أن أغلب دساتير تونس وضعت في سياق علاقات تبعية مع الخارج وهو ما جعلها لا تعكس بشكل كامل رؤية الشعب التونسي وخاصة ما يحرّكه من نزوع إلى القيام بدور يتجاوز حدود تونس. 
 
يبدو أن الجذر الكنعاني المغيّب وراء هذا النزوع هو ما يجعل الأزمة الحالية تتساوق مع استعادة لحظة قرطاج بوصفها لحظة تأسيس تحيل إلى دولة أدّت دوراً هاماً في المتوسط وأفريقيا وإلى ارتباط وثيق بالمشرق العربي في فلسطين ولبنان وسوريا والجانب الشرقي من العراق.
 
ورغم أنها كانت دولة مترامية الأطراف فإن قرطاج لم تكن مسكونة بالهاجس الامبراطوري الذي يؤدّي إلى الاستعمار وإخضاع الشعوب بل كان في سلوك قادتها ميل إلى تكريس الحوار والتعاون بين الثقافات والشعوب.
 
وقد يبدو هذا الاستطراد غير ذي علاقة مع الحديث عن "المتاهة الدستورية" التي تعيشها تونس ولكن لا يمكن فصل إشعاع قرطاج عن دستورها الذي اعتبره الفيلسوف أرسطو من أفضل دساتير عصره والذي كرّس مبادئ نحتاج إليها كالتداول على السلطة واعتماد الكفاءة معياراً لاختيار من يمثل الشعب ويخدمه إلى جانب مجالس واضحة وبمهام محددة علاوة على ظهور ما يوازي المنتديات الثقافية والمنظمات المهنية والشعبية في عصرنا الحالي.
 
يمكن لاستعادة لحظة قرطاج ومنحها بعداً مستقبلياً أن تسهم في تجاوز تونس الكثير من أزماتها السياسية والثقافية و"الأنثروبولوجية" الخانقة وأن تسهم في تعميق الجذور اللامرئية والفاعلة بين تونس وأحفاد الكنعانيين في المشرق.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium