خلال لقاء مع خبير اقتصادي عربي، متابع للشأن السياسي، دار الحوار حول الزيارات الأخيرة لنواب الكونغرس الأميركي لتايبية، والصفقات العسكرية المليارية معها، والتي شملت أسلحة دفاعية: رادارية، وجوية، وبحرية، وصاروخية متطورة، لمّا تكن واشنطن تغامر بعقدها تحسباً لغضبة بكين.
كما طرح الزميل مسألة التواجد المكثف للأساطيل البحرية الأميركية والصينية في مضيق تايوان، وبحر الصين، والتعدي الصيني على الأجواء الإقليمية للجزيرة بطلعات جوية لطائرات حربية ودرونات تجسس. ثم جاء التصريح غير المسبوق للرئيس الأميركي جوزيف بايدن، بأن الولايات المتحدة ستتدخل "عسكرياً" إذا ما حاولت الصين غزو تايوان، بما يخالف سياسة "الغموض الاستراتيجي" الذي اتبعته الإدارات الأميركية المتتالية خلال سبعين عاماً تجاه الرد المرتقب في ظرف كهذا.
أسئلة القرن
الأسئلة التي طرحها الدكتور عمر المرشدي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الفيصل، تماثل مع ما يتم طرحه في الساحات الإعلامية والسياسية منذ بداية العام الحالي، وبعضها سبق طرحه خلال السنوات الماضية، ولعل أكثرها ترداداً:
ماهي حكاية جزيرة تايوان التي شغلت أميركا وأوروبا وروسيا والصين؟ وهل هي حقاً محافظة صينية منشقّة، دعمها الغرب نكاية وتعدياً؟ أم مستعمرة أميركية، أشبه بمقاطعة "هونغ كونغ" تحت الإدارة البريطانية، ويمكن التفاهم على نقل السيادة عليها إلى البلد الأم مع اشتراط الحفاظ على نظامها الديمقراطي واقتصادها الرأسمالي، بمبدأ "بلد واحد بنظامين" الذي طبق مع الأولى؟
ثم، لماذا تشكل مساحة "جيب" صغير لا يساوي قطرة في بحر بلد قاري كل هذه الأهمية التي تكاد تشعل حرباً عظمى بين قوتين نوويتين، وتنهي عقوداً من التصالح والمصالح بينهما؟ ولماذا استمرت المشكلة عشرات السنين، بركاناً خامداً، يشتعل بين حين وحين، حتى تفجرت على هذا النحو في الشهور الأخيرة؟
التشابكات الدولية
ثم هل للأمر علاقة بالغزو الروسي لأوكرانيا؟ أو تخوف من تشكل قطب شرقي جديد "حلف شنغهاي" و"مجموعة بريكس"؟ أو ردة فعل للعسكرة الصينية المتصاعدة، والتنمر المستجد تجاه جيرانها، والتوسع القاري في العلاقات الدولية، عبر مبادرات كطريق الحرير والطوق البحري والاستثمارات الكبرى في الدول النامية؟
وفي المحصلة، هل التصعيد الحالي فرع من أصل، وعرض لمرض، نتيجة للتنافس المحتد منذ عقود بين أكبر اقتصادين في العالم يمثلان الرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، ويسعيان للهيمنة السياسية والمالية والعسكرية، عبر الشراكات التجارية والمشاريع الاستثمارية؟
ولعل السؤال الأهم، الذي يشغل العالم، هل سيؤدي التحرش إلى غزو، والاحتقان إلى مواجهة، تصل تداعياتها، وشرارات نيرانها، إلى أرجاء المعمورة؟ أم أنها عاصفة في فنجان، سرعان ما تطفئها نهاية المسرحية الأوكرانية، وتحسن العلاقات التجارية والسياسية، الأميركية - الصينية؟
كل هذه أسئلة مشروعة، ولكن الإجابة عنها تتطلب عودة إلى الوراء؛ إلى أصل الحكاية.
البعد الجيوسياسي/ التاريخي
تقع تايوان، حسب تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط (03 آب 2022) على بُعد نحو 100 ميل من ساحل جنوب شرقي الصين، ضمن "سلسلة الجزر الأولى"، والتي تبدأ في شمال اليابان وتمتد إلى جنوب غربي تايوان والفلبين قبل أن تعرّج نحو فيتنام، وكلها بلدان صديقة للولايات المتحدة، وبالتالي تشكل تهديداً لها ولقواعد أميركية فيها وفي جزر مجاورة كغوام وهاواي، فيما تصر الصين على سلمية نواياها.
خضعت الجزيرة لأول مرة للسيطرة الصينية الكاملة في القرن السابع عشر في عهد مملكة تشينغ التي تخلت عن الجزيرة لليابان بعد خسارة الحرب الصينية اليابانية الأولى، عام 1895، ثم استردتها بعد نصف قرن، مع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية (1945). وعليه تصر بكين على أن جزيرة تايوان مقاطعة صينية.
الحرب أهلية والانقسام
إلا أن سلطتها على الجزيرة لم تطل، إذ نشبت حرب أهلية بين القوات الحكومية القومية، بقيادة الجنرال تشيانغ كاي شيك، والحزب الشيوعي الذي يتزعمه ماو تسي تونغ. وانتصر الأخير بعد حرب دامية، في 1949 وسيطرت قواته على بكين. وفر الجنرال شيك ومَن تبقى من حزبه وقواته إلى تايوان، ونقلوا إليها عاصمتهم "مؤقتاً"، باعتبار أنهم لازالوا الحكومة الشرعية. وأعلنوا هدفهم باستعادة بقية الصين من قبضة المتمردين الشيوعيين ... يوما ما.
أما التيار التايواني الوطني المنادي بالاستقلال فيصر على أن الجزيرة لم تكن جزءاً من الدولة الصينية الحديثة التي تشكلت لأول مرة بعد ثورة 1911، أو جمهورية الصين الشعبية التي تأسست في عهد ماو تسي تونغ، عام 1949.
الاعتراف بالصين
في مرحلة ما بعد الانفصال، اعترفت الأمم المتحدة بـ"جمهورية الصين الوطنية" ممثلة للصين، وسلمتها عضوية المنظمة ومقعداً في مجلس الأمن. ولكن استقرار الحكم الشيوعي في الصين الأم، وتنامي قوتها العسكرية، وانضمامها إلى النادي النووي، فرض على أميركا وحلفائها الاعتراف بها، وتسليمها مقعد الصين في المنظمات الدولية، ونقل السفارات من تايبية إلى بكين. وجاء ذلك بعد زيارة الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون بكين عام 1971.
وتم خلال الزيارة التاريخية، وهي الأولى من نوعها لرئيس أميركي، التفاهم على أن يبقى الحال على ما هو عليه، فلا تسعى الصين لضم الجزيرة بالقوة، ولا تحرمها من التجارة مع العالم. وفي المقابل لا تعلن تايبيه استقلالها، ليبقى الباب مفتوحاً للوحدة السلمية مستقبلاً، ولا تنضم إلى أية أحلاف عسكرية، أو تسمح بقواعد أجنبية فيها. وحالياً، هناك 13 دولة فقط تعترف بتايوان كدولة ذات سيادة، أما البقية فلها مكاتب تجارية فقط. علما بأن معظم دول العالم لها مصالح تجارية معها، بما في ذلك "جمهورية الصين الشعبية".
وضعية القنفذ
سألت سفير تايوان في السعودية عام 1980 (لم تكن الرياض تعترف ببكين وقتها) ماذا ستفعل بلاده في حال التعرض لهجوم عسكري كاسح، بحري وجوي، عبر مضيق تايوان. رد مبتسماً: باستخدام و"ضعية القنفذ". وشرح كيف أن القنفذ يستطيع أن يصد أي حيوان مفترس يفوقه قوة وحجماً بالتقوقع على نفسه، وتسليط أشواكه تجاه المهاجم، الذي سرعان ما يدرك أن خسائره ستفوق مكاسبه، فيصرف النظر.
وخلال زيارتي تايبية بدعوة حكومية، عام 1989، تعرفت والضيوف، ومنهم برلمانيون غربيون، على ما كان يعنيه السفير خلال زيارتنا مواقع عسكرية جوية وبحرية توجه صواريخها الأميركية تجاه الجو والبحر، بكثافة عالية. بحيث لا تنفذ طائرة ولا باخرة "ولا حتى ذبابة"، على حد تعبير جنرال تايواني، دون إسقاطها أو إغراقها. "وماذا عن الصواريخ الصينية؟" سألتهم، فأجابوا باطمئنان، "الذي يريد الاستيلاء على دجاجة تبيض ذهباً لا يقتلها!" وكان الاقتصاد التايواني وقتها أقوى من الصيني، على صغر الجزيرة وكبر الصين.
هذه مقدمة تاريخية لا بد منها لفهم جذور الصراع بين صين وصين، وشرق وغرب، من شأنها أن تيسّر الإجابة عن أسئلة الزميل العزيز، في مساحة المقالة التالية. فإلى لقاء.
* أستاذ في جامعة الفيصل
@kbatarfi