تغني الأمثال، التي جاءت نتيجة تجارب متوارثة، وحكمة مجتمعية، عن كثير من الشرح والتفصيل. ومن ذلك أن الشخص الذي تعلق عليه كل الأخطاء وتنسب اليه كل المصائب، يوصف في لهجتنا الدارجة بـ"حمّال الأسيّة"، أي الشخص الذي يحملّه الآخرين مآسيهم. أتذكر هذا التوصيف كلما تابعت الحملات الاعلامية والسياسية ضد المملكة العربية السعودية، منذ عقود.
القوميون: "بترول العرب للعرب"!
ففي العهد الناصري، مثلا، كانت الدعاية التي وجدت صدى شعبيا وحزبيا، وحتى حكوميا، في العالم العربي، أن الرياض تسرق "بترول العرب". بإعتبار أن ما استخرجته من أراضيها هو ملك عام، وليس خاص لها. ولم يسأل أحد نفس السؤال، لماذا تحتفظ البلدان الأخرى، بما فيها الثورية والقومية والبعثية، بحقها في ثرواتها الطبيعية، ولا تدفع منه حتى مساعدات انسانية لبقية العرب، كما تفعل السعودية. ولذلك، يرى من يحصلون على الدعم السعودي أنهم يحصلون على قطرة من بحر حق منهوب، لا يستحق جزاءً ولا شكوراً، ويطالبون ببقية "التركة"!
وعندما خسر العرب الضفة الغربية والقدس وغزة وسيناء والجولان في ضربة واحدة من إسرائيل، ولما خسرت حكوماتهم الحرب في ستة أيام، ودُمّر طيرانها وهو "قاعد" في المدرجات بأوامر القادة، وقضي على دباباتها التي لم تتحرك لعدم تزويدها بالوقود، وحُصد جندها الذين لم يوفر لهم غطاء جوياً ولا صاروخياً، اتهموا السعودية، بالتآمر مع أميركا وإسرائيل، وهي التي سبق أن حذر ملكها الرئيس عبد الناصر من ضربة مرتقبة خلال أسبوعين، عبر السفير المصري، وبحضور السفراء العرب، فجاء الرد "قولوا له أنا صاحي ومش نايم".
الفلسطينيون: مال السعودية وشعارات إيران
وهكذا، كرّت السبحة. فرغم مواقف الرياض مع الفلسطينيين وتضحياتها من أجلهم، ما زال هناك من يتهمها بالتطبيع السري مع إسرائيل، (باعتبار أن تطبيعهم العلني معها مقبول!)، ويشكك في مواقفها تجاه مشروع الدولة الفلسطينية. رغم أن السعودية هي من أطلق المبادرة العربية لحل الدولتين وجمع لها الموافقات العربية والإسلامية والدولية، وما زالت أكثر من يدافع عنها ويرفض التطبيع قبل قبول تل أبيب بها.
وعلى ذلك فقس موقف حماس الذي يجحد كل المساعدات الإنسانية والإنمائية والحكومية، التي شملت رواتب الموظفين، في القطاع العام والدبلوماسي والصحي والديني، بما في ذلك من يشتمها على المنابر ويمجد لإيران التي لم تمنح شعبه "شيكلا" واحداً، واكتفت بتوفير الدعم "الشخصي" للقيادات، والشعارات التي فضحتها اتفاقية "حزب الله" مع إسرائيل. أو مواقف "الولائيين" لإيران من الأحزاب والشخصيات العراقية واللبنانية والسورية واليمنية. ولسان حال السعودية مع هؤلاء، يعبر عنه القول المأثور "أتقِ شرّ من أحسنت إليه"، أو مقولة نابليون بونابرت، "اللهم اكفني شرّ أصدقائي.. أمّا أعدائي فأنا كفيل بهم".
الديموقراطيون: السعودية هي السبب!
وكما فعل العرب، فعلت العجم، فهذه أميركا تطبق المثل العربي "رمتني بدائها وانسلّت". فبعد السياسات الديمقراطية المناوئة للوقود الاحفوري بإسم البيئة والمناخ والتحول إلى الطاقة الخضراء. وبعد نقض ما حققه الرئيس ترامب في 2019 بتحويل أميركا إلى أكبر دولة منتجة للنفط، حتى أصبحت دولة مستوردة له. وبعد تعطيل مشاريع التنقيب في الأراضي الفيدرالية وبناء شبكات النقل والتوزيع والمصافي، حتى ارتفع سعر الليتر في محطات الوقود إلى أضعاف سعره قبل عامين فقط. وبعد الحملة التي قادتها الإدارات الديموقراطية ضد الدول المنتجة للنفط، وعلى رأسها السعودية، والتهديد بقوانين لمعاقبة أعضاء أوبك بلاس.
بعد هذا كله، لم يجدوا غير السعودية، من بين 23 دولة أجمعت على قرار تخفيض مليوني برميل للحد من تخمة السوق، ولحفظ توازنه في مواجهة مؤشرات التضخم والكساد العالمي، ليحمّلوها كل خطاياهم، ويتهموها بتسييس وتسليح النفط، والانحياز إلى"الغازي" الروسي، وخذلان "الحليف" الأميركي! "مع هكذا حلفاء من يحتاج إلى أعداء؟!"
إيران: السعوديون أشعلوا ثورة الطلاب
وكذا حال إيران التي ينطبق عليها أيضا المثل الشعبي "ضربني وبكى وسبقني واشتكى". فالقائد الأعلى للحرس الثوري، والمتحدث باسم الخارجية الإيرانية، وغيرهما من القيادات الرسمية، يتهمون علناً الرياض بأنها وراء اشتعال الثورة في إيران. ويعترفون بأنهم من منع عميلهم الحوثي من تجديد الهدنة في اليمن، حتى يتوقف الإعلام السعودي عن تأجيج وتحريض الثوار في شوارع طهران وبقية المدن والمقاطعات الإيرانية.
ولم يكلفوا أنفسهم بتقديم أية تفاصيل، فضلاً عن أدلة. ولم يوضحوا كيف استطاعت قنوات تتحدث بالعربية توصيل رسالتها إلى من لا يفهمها من الجماهير البلوشية والفارسية والأذرية والكردية والتركمانية. ولا كيف تمكن "الوهابيون" من "أحفاد معاوية ويزيد" إقناع شيعة آل البيت بالانقلاب على "الإمام المعصوم"، "نائب الإمام الغائب" و"خليفة الله في الأرض" الذي يتلقى الوحي من السماء و"السرداب"؟! وأين ذهبت أربعين عاماً من برامج التعليم و"البرمجة" و"التحصين" ضد هكذا ضعف وتحول وانصياع؟ .. حقا إن "عذر البليد مسح السبورة"!
الإرهاب "السعودي"!
كما لم يكلفوا أنفسهم بتقديم ما يثبت اتهامهم لآل سعود بدعم الإرهاب القاعدي والداعشي، ولم يشرحوا لنا كيف نبت هذا الإرهاب في بلدان يهيمنون عليها، وتقيم قياداته في إيران، وتعبر منها بارهابيها وسلاحها وتموينها إلى العراق. وكيف تركزت الهجمات على السعودية، ولم تستهدف يوماً إيران ولا أتباعها وميليشياتها!
ورغم أن كل الدلائل تشير إلى تخادم إيران مع أميركا في غزو العراق عام 2003، باعتراف قيادات رسمية، مثل رئيسها السابق، هاشمي رفسنجاني، وتوجيه مرجعياتها بالتعاون مع الاحتلال، والهيمنة على هذا البلد العربي الذي استعصى عليهم في العهد السابق، وسرقة مئات مليارات الدولارات من نفطه، باعتراف النائبة فائزة رافسنجاني، وتحويل مجاري انهاره، ومصّ دماء شعبه.
رغم كل هذه المستمسكات ما زال الإعلام الايراني وأبواقه العربية تتهم السعودية بالمشاركة في الغزو وتمويله، وهي التي رفضت ذلك، سراً وعلانية، وحذر وزير خارجيتها سعود الفيصل في مقابلات إعلامية دولية من تدمير العراق وتقسيمه وتقديمه لقمة سائغة لإيران. وعندما هددت أميركا برفع الحماية عن العرش السعودي، رد الملك عبدالله بكلمته الشهيرة "العرش العربي الذي تحميه أميركا أدوس عليه"! إعلام ينطبق عليه المثل الشعبي، "عنزة ولو طارت!".
ثورة الحريات والحقوق الإنسانية
ما يحدث اليوم في إيران، يمثل بكل المقاييس، انتفاضة داخلية، يقودها طلاب الجامعات والنساء، ضد كل ما قامت عليه الجمهورية الإسلامية من عقائد وثوابت. فبعد أربعة عقود من الفشل الاقتصادي، والحصار الدولي، والنزاعات الإقليمية، لم يبق لأجيال ولدت في عهد "الثورة"، (التي ترفض النضوج إلى عهد "الدولة")، إلا الثورة ضد القمع والتسلط والحرمان من أبسط حقوق الإنسان، الحرية، الأمان والرخاء.
وإذا كان هناك تأثير سعودي فهو ما يراه الحاج والمعتمر، من تطور وتنمية وحريات، وما يقرأه المواطن عبر وسائل التواصل عن المشاريع الهائلة والرؤية المستقبلية، مقارنة بما يعيشه في بلده الذي يفوق غيره في الموارد الطبيعية والبشرية والاستراتيجية، ويفخر بموروثه الحضاري العظيم، ولازال يعيش على انجازات الشاهنشاهية، ويفتقد لخدمات أساسية متاحة لمعظم بلدان العالم الثالث.
تصدير الفشل
ولعل من المفارقات العجيبة، أن تشكو إيران من تدخّل غيرها في شؤونها، وهي التي قامت أساساً على تصدير الثورة إلى دول الجوار، والتدخل السافر في شؤون الآخرين، وتثوير الشعوب ضد حكوماتها، واستخدام ما هو أسوأ وأخطر من وسائل الإعلام للهيمنة على البلدان، من سلاح وتمويل وتدريب وتوجيه.
وربما، لأنها تعودت القيام بذلك، تفسر كل تحرك شعبي بتأثير أجنبي، وتتوقع من الغير رد التحية بمثلها "فكل إناء بما فيه ينضح". أو لعل التفسير الأبسط، والأوضح، أنها تبحث عن كبش فداء لكي لا تواجه الاعتراف بالفشل! وفي كل الأحوال فهي تعترف بفشلها وضعفها عندما تكشف سهولة استقطاب شعبها وتوجيهه، وتهينه عندما تتهمه بالعمالة والخيانة.
خلاصة القول، إن السعودية ستبقى الدولة التي ينسب إليها الأصدقاء والخصوم أخطاءهم، ويبررون فشلهم وسقطاتهم. فالفقير يتهم الغني، والفاشل يتهم الناجح، والصغير يتهم الكبير. والضعيف يتهم القوي. سترد وتوضح وتكشف الأكاذيب وتتصدى للحملات، ولكن طالما بقيت الرياض قلعة أمن وقوة، والسعودية جزيرة نماء ورخاء، ستبقى دوماً وأبداً "حمّالة الأسيّة"!
@kbatarfi