إنّ شعباً استقبل نحو مليوني نازح سوري، أي ما يقارب نصف عدد سكانه،وتشارك معهم أحياءه وخدماته العامة المتهالكة أصلاً، ليس شعباً عنصرياً. لكن كما تحوّلجزء كبير من شعوب أوروبا وأميركا الى اليمين العنصريّ، بفعل التحريض على العمالةالمهاجرة المترافق مع أزمات معيشية، ليس مستغرباً أن تصيب هذه اللوثة البشريةقسماً كبيراً من الشعب اللبناني الذي يتخبّط اليوم بأزمة معيشية حادّة في ظلّ قلقعميق ومبرّر على المصير الشخصي والوطني، وعجز تام عن مواجهة السلطة التي تسببت بمايعاني منه، هي التي امتهنت ببراعة، قتله وسرقته وإذلاله.
لم تكن اللهجة السورية محبّبة الى قلوب الكثير مناللبنانيين، حتى قبل النزوح السوري، بل كان يطالها الاستهزاء والسخرية. وربما كانالشيء نفسه يحصل أيضاً من جانب السوريين، لكنّي لم أختبر ذلك شخصياً.
بدل أن تكون اللهجات، التي هي أحد عناصر الاختلافالطبيعية والشائعة بين البشر، مصدر استمتاع للأذن مثلها مثل الموسيقى، تتحول في ظلّعلاقات هيمنة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، الى مصدر "تشاوف" واستهزاءبين مواطني المحافظات المختلفة، حتى في البلد الواحد.
وتبرز هذه الظاهرة خاصة فيعلاقة أهل المدينة بأهل الريف.
أتساءل اليوم عن موقف اللبنانيين من اللهجةالسورية، بعد أن دخلت الى بيوتهم عبر المسلسلات التلفزيونية، التركية والسوريةواللبنانية. كيف لهذه اللهجة، التي أصبحت أليفة ومحببة على لسان نجوم وممثلينمحبوبين، أن تتساكن لا شعورياً، مع مواقف نقيضة لدى معظم اللبنانيين الذين أصبحوامستائين وغاضبين من وجود النازحين السوريين على أرضهم؟
ما هو تأثير هذه اللهجة، التي وإن دخلت عبر الأذنين،تتواصل مع العينين وتصل إلى المشاعر المتّصلة بأحداث المسلسلات، التي ينتظرهااللبنانيون بشوق كلَّ مساء؟
لعلّ هذه اللهجة، التي أصبحت جزءاً من الأحلامالواعية عند اللبنانيين، وهم يتابعون المسلسلات، تخفف من التوتر المتصاعد بوتيرةمخيفة بين الشعبين، وتساعد بعض اللبنانيين
على النظر الى النزوح السوري، بتداعياتهالديموغرافية والمذهبية والطائفية والاقتصادية، بأقلّ قدر ممكن من العنصرية، وأكبرقدر ممكن من الموضوعية، آخذين في عين الاعتبار بالطبع، مصالح شعبهم ووطنهم.
أجدني كمن يستغيث بهذه اللهجة السورية، التييستأنس بها اللبنانيون في أمسياتهم، لعلها تجعلهم يتقبّلون ببساطة أكبر، مشهدأطفال سوريين كانوا يسبحون صباحاً في البركة أمام تمثال سمير قصير، فيستعيدونقدرتهم على الفرح بفرح الأطفال، بدل أن يغرقوا في بركة العنصرية، وتعلواحتجاجاتهم، ولا يعودون يرون في مشهد سباحة الأطفال، إلّا "الفوضىوالعشوائية"، وتقصير للبلدية في "حماية الممتلكات العامة." فيما هملا يبالون بكلّ ما يجري على بعد أمتار من البركة، أي في المجلس النيابيّ، حيث يجريالتخطيط لبيع الممتلكات العامة بأبخس الأثمان، وحيث يتمّ تعطيل عمل المؤسساتالدستورية على جميع المستويات، ما يفتح الأبواب واسعاً أمام جميع أشكال"الفوضى والعشوائية".
لا فائدة من الإشارة، الى أنّ سمير قصير مولود لأم سورية، فرمزية اغتياله الذي اتّهم به ما كان يسمّىبالنظام الأمني اللبناني- السوري، كانت غائبة كليّاً عن المشهد الذي استرعىالانتباه، واستدعى جدالاً بين منتقدين لما قام به الأطفال ومدافعين عنه.
إنّ الذين انزعجوا من مشهد الأطفال وهم يلعبون، لمينتبهوا على الأرجح، أنّه في الصباح نفسه، كان لبنانيون يعتصمون تضامناً معالمحامي نزار صاغية، الذي استدعته نقابة المحامين الى التحقيق، محاولةً، بحجّةالحفاظ على أخلاق المهنة، أن تحدّ من حريته وحرية محامين آخرين، في الدفاع عنالمظلومين في هذه البلاد، أكانوا لبنانيين أم سوريين او فلسطينيين أو من جنسياتأخرى.
فالحملات المسعورة ضدّ النازحين السوريين، وإنانطلقت من بعض الاعتبارات المحقّة، إلّا أنّ هدفها من وجهة نظر السلطة، هو غضّالنظر عن انتهاكاتها هي، لكافة الحقوق الانسانية لمواطنيها، وتوجيه غضبهم نحوالنازحين السوريين. فلا يعودون يرون في حديقة سمير قصير إلّا بركة مياه، ويفضّلونالبدء في صباحاتهم، بانتقاد لعب أطفال سوريين، بدل أن يبدؤوها بالاعتصام معمواطنيهم الآخرين، ضدّ من يلعب بمصيرهم ومصير وطنهم، من خلال التضييق على الحرياتالعامة.