د. ناديا شعيب
*رئيسة مؤسّسة شعيب الإنسانية
تتعاظم يوماً عن يوم مسؤوليتنا في إرساء وتعزيز المسؤولية الاجتماعية المستدامة في العالم العربي، أقصد بها مسؤولية الدول العربية بكامل أجهزتها وإداراتها، والمؤسسات الأهلية والمدنية والدينية والاجتماعية على اختلافها.
لم ألمس خلال رحلة اهتمامي بالشأن العام، أن هذه المسؤولية وُضعت في الأولوية التي تستحق، فلا تنظيم المؤتمرات، ولا الندوات، ولا العمل الروتيتني للإدارات الرسمية، في أكثر من دولة عربية وبنسب متفاوتة، أدّى الغرض المطلوب، وما زلنا نشاهد تلك المشاهد البائسة والمروّعة، لأطفال متروكين لقدرهم في الطرقات يتوسّلون اللقمة والمال، ولعائلات لا تكفي حاجتها حتى لساعات طوال اليوم، ما زلنا نعايش هذه الفروق الهائلة التي زادت الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاسها علينا من حدّتها، هي أزمة الفرق بين أقليّة مقتدرة تسرف في الترف، وأكثرية هائمة على وجهها، تفتش عن الطعام فلا تكفي نفسها، وتنتظر القدر عندما تحتاج للاستشفاء والتعليم، وتتدحرج نزولاً، الى أدنى مستويات العيش، وكل مبادراتنا وجهودنا تصبّ باتجاه سدّ هذه الفجوة.
تنشأ المسؤولية الاجتماعية، من شعور كامن في كل منّا، المسؤولية تجاه كل فقير ومحتاج، المسؤولية تجاه من لا يستطيع تعليم أبنائه ومن ينتظرون الموت على أبواب المستشفيات، ومن هذا المنطلق أرست الدول التي تحترم إنسانية الإنسان أسساً قانونية لروح المشاركة والمسؤولية المجتمعية ولا سيما المؤسساتية منها، والأبرز في هذه التشريعات، إطار يحدّد مسؤولية القطاع الخاص، أي الشركات التي تحقق أرباحاً كبيرة، تجاه الجمعيات الأهلية التي تنفذ حملات المساعدة الاجتماعية.
لقد نظر المشترع في الدول المتقدّمة الى هذا التعاون بين القطاع الخاص والمؤسسات الأهلية الاجتماعية، بعين الرؤية الى المستقبل، فوضع حوافز لتشجيع القطاع الخاص على مساعدة الجمعيات الأهلية، منها حسم جزء من المساعدات، من ضريبة الدخل، منها أيضاً تسهيلات تسويقية تشجيعية عالية.
لكن في المقابل، وبغرض تحقيق الاستدامة والشفافية في العلاقة المفترض أن تحصل بين القطاع الخاص والجمعيات الأهلية، يُفترض بهذه الجمعيات أن تعطي نموذجاً واضحاً وشفافاً وفعالاً ومستقيماً، عن عملها في تنظيم حملات المساعدة الاجتماعية، وتكون الشفافية هنا شرطاً لازماً للاستدامة، والهدف النهائي سيصبّ حتماً في هدف تعزيز المسؤولية الاجتماعية وتعميمها.
للمسؤولية الاجتماعية قواعد ثابتة، على رأسها الشفافية والفعالية فمن حق الشركة الواهبة، أن تتابع وتراقب كيفية صرف الأموال المخصّصة للمساعدات، وأيضاً أن تختار المؤسسة التي تحسن استعمال الإيرادات وتوصل أعلى نسبة الى المحتاجين، تحقيقاً للهدف الاجتماعي الكبير.
لقد كان لنا شرف المحاولة في تشجيع نموذج التعاون بين القطاع الخاص والجمعيات الأهلية، ومن هذا النموذج نعطي مثالاً على أن تعاون القطاع الخاص مع جمعيات المجتمع المدني، يمكن أن يحقق إنجازات تقارب المعجزات، فالكثير من الأهداف تنتظرنا، محاربة الفقر والتنمية الاجتماعية والرعاية الصحّية والتأهيل لذوي الاحتياجات الخاصة، ولن أذكر كل المهمات التي يُفترض أن نواجهها لأن مجلدات لا تكفي لوصف ما نعيشه.
لقد أطلقنا كمؤسسة تُعنى بالمسؤولية الاجتماعية، منصّة سوشياليتي التي هي أول منصة عالمية وعربية هدفها ربط الشركات الواهبة بالجمعيات، ارتكازاً على قواعد الاستدامة والشفافية والفعالية. الربط هنا سيؤدّي أيضاً الى تعاون الجمعيات العاملة في المجال الاجتماعي بقضيّة واحدة، بحيث تتضاعف فعاليتها، وفق خريطة طريق مدروسة، تعطي الثقة للقطاع الخاص كي يشترك في تحمّل المسؤولية، ويفترض بالتالي اعتماد المعايير التي أقرّها الاتحاد العالمي للجمعيات الأهلية بنيويورك، انسجاماً مع أهداف الأمم المتحده للتنمية المستدامة ٢٠٣٠.
لقد تعاونّا مع شركات فرنسية وبريطانية اختصاصها منح الشهادات للشركات ذات المسؤولية المجتمعية وللجمعيات التي تطبّق المعايير، وكذلك تنوي المؤسّسة معاودة إقامة جائزة أفضل جمعية، إضافة الى جائزة أفضل الشركات في ترجمة مسؤولية مجتمعية الى أفعال، ولقد انطلقت مبادرتنا هذه بالتعاون مع جامعة الدول العربية قسم الشؤون الاجتماعية من أجل حث وزارات الشؤون الاجتماعية العربية على تبنّيها، كما تعاونّا مع الاتحاد العربي للغرف التجارية من أجل حث الغرف التجارية العربية والشركات العربية على تبنّيها.
لن تتحقق الخطوات الجدية الى تعزيز المسؤولية الاجتماعية، بهدر الأموال والاستثمار في الخطوات الاستعراضية. إنها مسؤولية حقيقية والتزام أخلاقي وإنساني. إنها فعل وجهد واستقامة وتخطيط وفعالية من أجل الاستدامة في رفع الظلم والوصول بالمساعدات الى كل المناطق المظلمة والمنسيّة.
الطريق طويل، لكن الهدف عظيم، ويستأهل بذل الجهد، ونحن بصدد ترتيب التعاون المثمر والبنّاء على الصعيد العربي، بالتنسيق مع جميع الهيئات الرسمية والأهلية، لوضع المسؤولية الاجتماعية في مرتبة الاهتمام التي تستحق، من أجل الانتقال بمجتمعاتنا الى مرحلة الإنتاجية والفعالية والاكتفاء، بما يحفظ كرامة الإنسان العربي ويوجّهه الى مستقبل أفضل.