غسان صليبي
بالنسبة إلى تكتل "نواب التغيير"، لا تزال معركة إنتخابات رئاسة الجمهوريّة، مسألة فكريّة، ولم تصبح سياسيّة بعد. صوّتوا في جلسة الإنتخابات الأخيرة لــ"لبنان الجديد"، ولم يسمّوا مرشّحًا من لحم ودم.
"لبنان الجديد" هو مجرّد فكرة، حتى هم انفسهم يختلفون على مضمونها. وهي فكرة تتكلم عن شيء غير موجود، شيْ غيبي. تغاضوا عمّا هو موجود، عن الواقع، وذهبوا الى الغيب. أليس هذا سلوكَا دينيًّا يا أيها المنادون بالعلمانيّة؟
انتخاب رئيس الجمهوريّة حدث سياسي وليس دينيًّا ولا فكريًّا. السياسة ليست قضايا وبرامج ومواقف فحسب، بل صراع.
يمكن لهذا الصراع ان يكون عنيفًا ويمكن ان يتخّذ شكل الحوار والمحاججة. البشريّة ابتكرت الديموقرطيّة لتحل صراعاتها بعيدًا من العنف. ولأن البشر يختلفون بآرائهم وقد لا يقنع بعضهم بعضا وصولاً الى إجماع حول قضيّة أو فكرة، جاءت الديموقراطيّة لتحسم الحوار والمحاججة، بالتصويت. الصراع الديموقراطي يتطلّب اصطفافات، حول قضايا وبرامج وأفكار، ولا يمكن ان يشتغل بدون هذه الاصطفافات. وإذا أردتَ التغيير في المجتمع الذي تعيش فيه، فعليك ان تنخرط في الصراع الديموقراطي وتتعامل بواقعيّة مع هذه الاصطفافات، وتؤثّر في الصراع الديموقراطي في ما بينها، وإلاّ لن تتمكّن من إحداث أي تغيير. في تصويت نواب التغيير لــ"لبنان الجديد" بحجّة انهم خارج الاصطفافات، وضعوا أنفسهم خارج الصراع الديموقراطي، لا سيما ان الصراع الحالي هو بالتحديد على هوية لبنان الجديد. أكثر من ذلك، لكأنّهم بسلوكهم، يشكّكون في اللعبة الديموقراطيّة نفسها، لا سيّما انهم يصمتون على احتمال الوصول الى شغور رئاسي في حال استمرّ على حاله سلوك بعض الكتل التي لا تسمّي مرشحها وتصوّت بالورقة البيضاء، في انتظار التوافق. التوافق ليس ديموقراطيّة. الديموقراطيّة اختلاف في الرأي وتصويت. الأصرار على التوافق هو الخروج عن الديموقرطيّة وتعطيل لها.
فلتختر الكتل مرشّحيها وتصوّت لهم وليحسم التصويت النتيجة. انه الحل الوحيد في الديموقراطيّة وإلاّ التعطيل أو الديكتاتوريّة.
في فرنسا مثلاً، تصوّت الأحزاب لمرشحها في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وإذا لم ينجح أحدهم، تتحالف في الدورة الثانية للتصويت للمرشح الأقرب الى توجّهاتها، حتى ولو كانت خاصمته في الدورة الأولى.
استمرار "نواب التغيير" في عدم التصويت لمرشح محدّد، وفي التغاضي عن ضرورة عقد جلسات متتالية يتنافس فيها مرشحون، حتى انتخاب أحدهم، هو دفع نحو الشغور الرئاسي وإسقاط للديموقراطيّة. ولا تغيير بدون ديموقراطيّة يا نواب التغيير.
لا أدعو "نواب التغيير" الى التصويت لهذا المرشح أو ذاك، أو الى دعم هذا الإصطفاف أو ذاك، بل أدعوهم الى التصويت للديموقراطيّة، لآليات عملها، حتى ولو كانت النتيجة انتخاب هذا المرشّح أو ذاك، أو هذا الاصطفاف أو ذاك. فانتصار الديموقراطيّة يفتح الباب أمام إمكان التغيير، وتعطيلها يغلقه الى الأبد، كما حصل ويحصل في الانظمة الاستبدادية المحيطة بنا، وكما بدأ يحصل في النظام اللبناني بعدما لجأت القوى المهيمنة الى تعطيل المؤسسات الدستورية.
أمّا إذا لم يعد نواب التغيير، وبعد تجربتهم في المجلس النيابي، يثقون بإمكان التغيير من خلال المؤسسات الدستوريّة، فليقولوها صراحةً، وليعودوا الى الشارع، الى الإنتفاضة أو الى الثورة. المهم ان يكفّوا عن تهميش انفسهم وتهميش جماهير 17 تشرين التي يدّعون تمثيلها.