النهار

واشنطن وبكين... رؤيتان ومعسكران يتنازعان العالم!
هادي جان بو شعيا
المصدر: "النهار"
واشنطن وبكين... رؤيتان ومعسكران يتنازعان العالم!
تعبيرية.
A+   A-

تسود حال من الصخب والضجيج في محيط يُفترض أنه هادئ سببها تسارع وتيرة التهديدات السياسية والعسكرية والخطوات الاستفزازية بين كلّ من الصين والولايات المتحدة الأميركية، إذ يبدو أن اتفاقية "أوكوس" التي كشفت عنها واشنطن بتزويد أوستراليا بغوّاصات تعمل بالطاقة النووية، بالتعاون مع بريطانيا، لم يكن وقعها سلساً على آذان بيجينغ وموسكو، اللتين سارعتا إلى التنديد بالخطوة.

 

غير أن اللافت في الأمر هو أن واشنطن، لأول مرة منذ 65 عاماً، ستتشارك أسرارها العسكرية وتكنولوجيتها مع دولة أنغلوساكسونية أخرى بغية ضرب الصين في منطقة جيو-سياسية حسّاسة، في الوقت الذي توعّدت فيه بيجينغ ببناء جيش وقدرات عسكرية فولاذية لردّ الصاع صاعَيْن، ممّا يطرح سلسلة من التساؤلات حول اتجاهات المنطقة وحدود التصعيد والتهدئة فيها.

 

احتواء الصين وتطويقها

بادئ ذي بدء، لا يمكن فهم تفعيل تحالف "أوكوس" AUKUS الثلاثي بين الولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا والمملكة المتحدة إلا من خلال ما تنص عليه الاستراتيجية الوطنية الأميركية التي تقوم في جوهرها على احتواء الصين وتطويقها.

 

في هذا السياق، ومنذ عدة أيام، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ جهاراً، للمرة الأولى، في خلال مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، "تحاول الولايات المتحدة احتواء الصين وتطويقها وكبتها بالكامل". يبدو أنه لم يكن مخطئاً في ذلك؛ ذلك أن ما يؤرّق الصينيين ليس تحالف "أوكوس" فحسب، بل التحالف الرباعي "كواد" QUAD الذي يضم كلاً من الولايات المتحدة الأميركية والهند وأوستراليا واليابان، وهو جزء من تحالف أمني اقتصادي عسكري. ويمثّل هذان التحالفان جزءاً لا يتجزأ من تحالفات إقليمية دفاعية تهدف بشكل رئيس إلى قطع الطريق على بيجينغ في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية كافة.

 

ولا يغيب عنّا أن أوستراليا تسعى لإنفاق مبلغ ضخم يقدّر بـ368 مليار دولار أوسترالي في السنوات الثلاثين المقبلة بهدف عسكرة جيشها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليابان التي تستثمر مبلغ 200 مليار دولار أميركي في إطار رباعية "كواد" لملاقاة الاستراتيجية الأميركية. الأمر نفسه ينطبق على كوريا الجنوبية وسواها من حلفاء واشنطن بغية إنشاء تحالفات إقليمية تشكّل جزءاً من "ناتو آسيوي" عبر استعارة صفحة – إذا جاز التعبير – من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي السابق لتطويق الصين ومنعها من تهديد الأمن القومي للدول الواقعة على ضفاف المحيطين الهندي والهادئ.

 

ولاقى هذا الحراك الأميركي استهجاناً واستنكاراً صينيين واسعي النطاق، نظراً لما يمثّله من انتهاك صارخ لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، فضلاً عمّا يشكله من اتفاق عسكري بحت ينقل التكنولوجيا الأميركية النووية بعد بريطانيا إلى أوستراليا، مما سيفتح المجال أمام دول أخرى في تلك المنطقة لطلب نقل هذه التكنولوجيا إليها، خصوصاً الهند التي تواجه مشكلات عصيبة مع جارتها الصين.

 

ثلاثية ورباعية وخماسية

يعني ما تقدّم أن التحالفات الأميركية الحاصلة تصبّ في إطار التصعيد العسكري في مستقبل المواجهة مع الصين، كما أن اتفاق "أوكوس" لا يتوقف عند حدود الثلاثية أكثر من كونه خماسياً أو ما يُعرف بـ"العيون الخمس" FVEY، وهو مصطلح يشير إلى تحالف استخباري يشمل كلاًّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، بموجب المعاهدة البريطانية الأميركية المتعددة الأطراف، وهي معاهدة تختص بمجال التعاون المشترك في استخبارات الإشارات.

 

هذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على أن الاستراتيجية الأميركية الأمنية تبحث عن الشركاء والحلفاء الموثوقين لتشاركهم مثل هذه الوثائق والتكنولوجيا ونقلها إلى هذه المنطقة. وبناءً على ذلك يأتي رد الفعل الصيني أكثر صرامةً لجهة تحديث الترسانة العسكرية ورفع قدراتها كما قال الرئيس الصيني شي "لإنشاء جيش من الفولاذ" وتحضيره لمواجهة أيّ تحدّيات مستقبلية في هذه المنطقة.

 

صحيح أن هذا الاتفاق لن يكون آنياً لكونه سيستغرق عقداً من الزمن. لكن في الوقت نفسه، هناك مخاطر تتهدّد الملاحة البحرية في المنطقة، حيث عمدت الولايات المتحدة، منذ عام 1951، إبان الحرب الباردة إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي في عام 1991، فيما استمرت بحربها الباردة مع بيجينغ لتنشر القواعد العسكرية الأميركية على طول الجبهات البحرية مع الصين كقوس قزح. وإذا ما نظرنا إلى تحالف أوكوس الثلاثي على الخريطة العالمية نجد أنه بالفعل يهدّد أمن واستقرار الصين في المستقبل.

 

قوس انتشار القواعد الأميركية

وفي مساعيها لصدّ النفوذ الصيني، تحاول واشنطن تعزيز قوس انتشارها العسكري حول الصين وتوسيع نفوذها في المحيطين الهادئ والهندي، ذلك أن آخر صفقة أبرمتها واشنطن في إطار هذه المساعي، كانت مع الفيليبين في شهر شباط الماضي، إذ تتيح الصفقة للولايات المتحدة استخدام أربع قواعد عسكرية فيليبينية أخرى ليرتفع بذلك عدد القواعد التي يُسمح للجيش الأميركي باستخدامها هناك إلى تسع قواعد، بما فيها تلك القريبة من بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بين بيجينغ ومانيلا، ومن تايوان أيضاً، إحدى أكبر بؤر التوتر المحتملة. كذلك يوجد حالياً نحو 500 من أفراد الجيش الأميركي في الفيليبين.

 

وبالإضافة إلى الفيليبين، تنشر الولايات المتحدة قواتها في عدد من البلدان من أهمها اليابان وكوريا الجنوبية وجزيرة غوام. لكن اليابان تضمّ أكبر عدد من العسكريين، وهم بحدود 55 ألف جندي أميركي يتوزعون على نحو 112 قاعدة من مخلفات الحرب العالمية الثانية. تتمركز معظم هذه القوات في قاعدة فوتينما في جزيرة أوكيناوا التي تستضيف أيضاً الأسطول السابع، وهو أكبر قوة أميركية بحرية منتشرة في العالم، وتضم ما يقرب من 50 إلى 70 سفينة وغواصة و140 طائرة و20 ألف بحّار. كذلك يضم الأسطول 14 مدمّرة وسفينة حربية ونحو 12 غواصة تعمل بالطاقة النووية.

 

أما في كوريا الجنوبية، فيوجد نحو 29 ألف جندي أميركي في 33 قاعدة عسكرية مختلفة من أهمها معسكر همفريز، وهو أكبر قاعدة من حيث الحجم وعدد القوات، ويقع على بعد 54 ميلاً من العاصمة سيوول.

 

وجزيرة غوام هي إحدى أصغر الجزر الأميركية، وتقع غرب المحيط الهادئ، يديرها حاكم منتخب، وفيها نحو 6000 جندي أميركي يتمركزون في قاعدة أندرسون الجوية التي تستضيف الطائرات المقاتلة والقاذفات الثقيلة. وهي أيضاً قاعدة انطلاق للجيش الأميركي نحو الصين واليابان والكوريّتين وتايوان، ويصفها القادة الأميركيون بأنها أشبه بحاملة طائرات دائمة.

 

الاستراتيجية الوطنية الأميركية... قرن يُبنى

مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة الأميركية تمثّل القوة العسكرية والنووية الأكبر في العالم حتى الآن. لكن الجديد في الاستراتيجية الأميركية ينطوي على تطوير الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وتمثل درة تاج السلاح الأميركي الاستراتيجي الذي تتشاركه اليوم مع أوستراليا، بعدما كانت تشاركته مع بريطانيا حصراً، ما يعني أن واشنطن تنشر الفخاخ لبيجينغ للوقوع في شركها والانقضاض على تايوان، وهذا ما لن يحصل، نظراً لما تتمتع به الصين من صبر استراتيجي، خصوصاً أن الخبراء العسكريين الأميركيين يراهنون ويعملون على عسكرة آسيا وبحر الصين في خلال السنوات السبعين المقبلة.

 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاستراتيجية الأميركية الوطنية، التي تشكّل التحالفات الثلاثية والرباعية والخماسية وحتى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، تخطط لقرنٍ من الزمن (السنوات المئة المقبلة) على أساس أن الصين تمثل العدوّ والخطر الاستراتيجيَيْن على النظام الليبرالي الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً.

 

في المقابل، وفي قراءة لتاريخ الصين يتبيّن أنها لم تكن يوماً دولة استعمارية، ومضت في علاقاتها الدولية عبر بوابة الاقتصاد والتجارة، وابتعدت عن التدخل السياسي في الشؤون الداخلية للدول، وهذا ما جعلها تحافظ على هامش من التباعد في علاقاتها، وسمح للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بغزو دول العالم تحت ذريعة الدفاع عن الديموقراطية، ومحاربة الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل التي تبيّن في ما بعد أنها كانت أسلحة "تضليل شامل" على غرار ما حدث في العراق وليبيا.

 

شيطنة الصين والعدوّ الوهمي

تدرك الصين اليوم أنها مستهدفة، لكن يجب على الولايات المتحدة أن تدرك بدورها أن الزعيم الصيني شي بات الزعيم المطلق الذي لا يمكن تجاهله، في الوقت الذي تنشر فيه القيادة الصينية مشاريعها الطويلة الأمد للربط بين الشمال والجنوب من خلال "خط الحرير"، الذي بدأه شي في عام 2013. وتقوم تلك المشاريع على تخيير الدول بين الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي وبين الحروب المتجدّدة وخلق العدو الوهمي، وفق ما تنتهجه الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لزيادة التحالفات العسكرية بغية الصراع على النفوذ واستنزاف قدرات الدول المشاركة في هذه التحالفات المضادة سواء ألمانيا واليابان أو الصين وروسيا.

 

على الطرف الآخر، وفي تمحيص لسياسات الصين الداخلية والخارجية يتضح أنها ليست "ملائكية"، إذ يمكن تسجيل تحفظات عديدة عليها. ولكن ما يحدث اليوم في الغرب يرمي إلى شيطنة الصين وتصويرها على أنها إمبراطورية الشرّ التي تتوسّع على حساب النظام الليبرالي العالمي، حيث كان لافتاً تصريح رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في خلال مقابلة مع مراسل قناة "بي بي سي" كريس ميسون، حين قال: "الصين دولة ذات قيم مختلفة اختلافاً جذرياً عن قيمنا، وتمثّل تحدّياً للنظام العالمي؛ ولهذا السبب من الصواب أن نكون متيقّظين لذلك ونتّخذ خطوات لحماية أنفسنا والدفاع عن قيمنا وحماية مصالحنا"، مع العلم بأن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لكل من المملكة المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة وأوستراليا، مما يطرح تساؤلاً حول جدوى استعداء قوة عظمى بسبب اختلاف القيم!

 

وهنا تبرز رؤيتان تتصارعان في العالم، الرؤية الأميركية-الغربية القائمة على النظام الليبرالي، التي تتغذى على التجييش والتحشيد والتأليب، تقابلها الرؤية الصينية التي تقوم على الحوار والتفاوض واحترام سيادة الدول؛ ولعلّ تحقيق التقارب السعودي-الإيراني بمعيّة الصين، ورؤية السلام الصينية للحرب الدائرة بين روسيا من جهة، وأوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية والغرب وحلف الناتو من جهة أخرى، جزء لا يتجزأ من الرؤية الصينية التي تختلف جذرياً عن الرؤية الأميركية.

 

إذن تبرز الإشكالية الكبرى على النحو الآتي: في ظلّ ما يعيشه العالم من أزمة اقتصادية بنيوية، وما يشهده عدد كبير من الدول من مجاعات يجعلها على شفير الهاوية، نرى دولاً أخرى تضخّ تريليونات الدولارات في سبيل استثمارها في البنية التحتية الدفاعية والعسكرية!

ما تقدّم يطرح السؤال الآتي: هل هذا هو الاتجاه الصحيح الذي يرمي إليه قادة العالم اليوم؟ ماذا عن قضايا الحوار والتفاوض التي يجب إطلاقها لإخماد فتيل الصراعات المستعرة في أوروبا نتيجة الحرب الأوكرانية أو تلك النزاعات التي تنشط في محاولة لإشعال منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتالياً آسيا؟!

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium