يا لها من مصادفة جميلة، أن يتشابه اسم ميساء اللبنانية مع اسم مهسا الإيرانية، في أحرف البداية والنهاية وفي النغمة.
مهسا أميني الإيرانية تجرّأت على ارتداء حجاب يظهر جزءاً من شعرها في شوارع إيران. وميساء يعفوري اللبنانية تجرّأت على ارتداء لباس البحر الذي يظهر بعضاً من جسدها على شاطئ صيدا.
جرأة مهسا قتلتها على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. أما جرأة ميساء فتسببت لها بالأذى الجسدي والنفسي على يد رجل دين ومرافقيه حاولوا طردها هي وزوجها بالقوة عن الشاطئ بسبب لباسها.
لكن فيما سلوك مهسا الإيرانية يتناقض مع القوانين الإيرانية، فإن سلوك ميساء اللبنانية يتطابق مع نصوص الدستور اللبناني.
اختلفت مواقف اللبنانيين في وسائل الإعلام وعلى الأرض في شأن تقييم ما جرى، ووقف بعضهم مع حق النساء في ارتداء المايوه، بينما وقف بعضهم الآخر ضد ممارسة هذا الحق. بعد نحو أسبوع من الحادثة، جاء في صحيفة "النهار" يوم الأحد 21 أيار ما يأتي: "شهد مدخل المسبح الشعبي في مدينة صيدا صدامات بين مؤيّد ومعارض للباس البحر، فيما منعت القوى الأمنية الجميع من النزول إلى الشاطئ وإقامة أيّ تجمّع أو نشاط. وسُجّلت مواجهات بين القوى الأمنية وعدد من الشبان على كورنيش صيدا البحري".
علينا التسليم منذ البداية بأن الدستور اللبناني هو المرجعية الوحيدة التي تحكم علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض. ولا يمكن اتخاذ موقف من ظاهرة معيّنة متصلة بحقوق اللبنانيين إلا بالعودة إليه، وليس بالرجوع إلى معتقدات من خارجه. إلا إذا تناقضت هذه المعتقدات مع أحكامه.
إن لم نعد نسلّم بمرجعية الدستور، فعلينا الاعتراف بشجاعة بهذا الواقع المرير، واستنتاج ما يترتب على هذا الاعتراف على المستويات كافة، ولا سيما الدستورية والقانونية منها. عندها يأخذ النقاش منحىً آخر. لكن ما دمنا نعترف بالدستور، فلا مرجعية لنا غيره، لاتخاذ موقف من قضية الحرية الشخصية التي تمثلت في مشكلة ارتداء اللباس البحري النسائي على شاطئ صيدا.
الدستور يعطي الحق التام للسيدة ميساء يعفوري ومناصريها، ويدين مواقف المعتدين ورئيس بلدية صيدا على حدٍّ سواء. فلنُعِد التذكير ببعض ما جاء في الدستور اللبناني، والمتعلق بموضوعنا. فـ"لبنان واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات... وملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات دون استثناء... وهو جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد... ونظامه قائم على مبدأ الفصل بين السلطات... وأرضه أرض واحدة لكل اللبنانيين... ولا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". وجاء أيضاً: "اللبنانيون سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون فرق بينهم"، و"حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان وتكفل حرية إقامة الشرائع الدينية تحت حمايتها، على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام".
نعم، من الواضح أنه لا يحق للشيخ المعتدي أن يقول: إنهم موجودون هنا لـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، أو يقول أحد مرافقيه: "هذا مش قانون... هذا عرف... وروحوا على مناطقكم". ولا يحق لأحد الاعتداء الكلامي والجسدي على السيدة، والتصريح بوجه زوجها بكل وقاحة "بدك تتشكى عليي للبلدية؟ هيك عم تقلل من احترامي! نحنا ما منخاف من حدا بدك تبعت الدولة إبعت".
كذلك لا يحق لرئيس البلدية أن يبرر الاعتداءات بالحفاظ على العادات والتقاليد، وأن يرمي المسؤولية على القوى الأمنية، وكأن القضية مسألة أمنية وليست قانونية، ضارباً عرض الحائط بالحقوق التي كفلها الدستور وواقع الاعتداء الجسدي على مواطنين.
في المقابل يحق للسيدة ميساء أن تصرخ عالياً: "أنا أتردد على شاطئ صيدا دائماً منذ خمس سنوات، وبغضّ النظر عن البحر والمكان الذي أرتاده هنا أو في أي مكان آخر، لكن هذه حريتي وهذه مدينتي وهذا بيتي، ولا يحق لأحد أن يأتي ويقول لي "فلّي من هون. صيدا مش إلك. روحي على صور أو الرميلة" فمن الذي نصّبه على رقاب وحرية الناس وجعله يستقوي عليهم؟".
صحيح، من نصّب الشيخ ومرافقيه؟ هذا هو السؤال الجوهري. فإن كان النظام الإيراني بدستوره وقوانينه نصّب شرطة الأخلاق على رقاب الإيرانيين وحريتهم، فمن نصّب هؤلاء على رقاب اللبنانيين وحريتهم، الذين من المفترض أن يحتكموا الى دستورهم وقوانينهم وليس إلى شيء آخر؟
قد يأتي الجواب على شكل "إننا لم نعد نعيش في نظام يحكمه الدستور والقوانين، بل في نظام يحكمه السلاح". ففي اليوم نفسه الذي جرت فيه المواجهة على شاطئ صيدا، كان "حزب الله" ينظم مناورة عسكرية على أرض الجنوب ويدعو إليها وسائل الإعلام. ولاكتمال المشهد، ها هو رجل دين، السيد هاشم صفي الدين، يتكلم باسم الحزب، في هذه المناسبة.
يصعب التفريق بين العسكري والديني في مشهد المناورة، كما يصعب تحييد الدين عن العنف الممارس ضد السيدة وزوجها على شاطئ صيدا. كذلك لا يمكن إغفال التحالف بين "حزب الله" و"العلماء المسلمين"، الذي ينتمي إليه المشايخ الذين يحرّضون ضد اللباس الديني النسائي في صيدا. لا أقول ذلك لإلقاء المسؤولية على "حزب الله" في حادثة صيدا، بل للفت النظر إلى نشوء نظام عسكري - ديني يتجاوز الحساسيات المذهبية الإسلامية. بالتالي، ومع الاختلاف الجذري بين دستور وقوانين لبنان وإيران، يبدو المشهد من خلال الممارسات، متقارباً إلى حد بعيد.
لكن حملة الدفاع عن مهسا أميني الإيرانية تجاوزت المسألة الجندرية، وطالت النظام العسكري - الديني القائم. بحسب الموقف الذي عبّرت عنه النساء اللبنانيات المناصرات لميساء يعفوري، لا تزال الحملة في إطارها الجندري الخالص، فقد استهدفت "النظام الأبوي"، مع بعض الإشارات إلى العناصر الدينية في تركيبة هذا "النظام الأبوي"، وإغفال تام للجانب العسكري.
الحملة النسائية على الشاطئ كانت ضعيفة عددياً، كما أن صوت الجمعيات النسائية والحقوقية لم يرتفع بالشكل المطلوب، في ظل صمت نيابي وسياسي قاتل. فمسألة قضم الحريات العامة بوتيرة متصاعدة وسريعة، ليست بعد على جدول أعمال المعارضة السياسية، بشقيها الليبرالي واليساري. فلا أزال أذكر كيف أن الحزب الشيوعي خضع للضغوط واضطر لإلباس كوفية لإحدى شهيداته التي كانت سافرة في حياتها، حتى يتمكن من نشر صورها لمناسبة ذكرى استشهادها.
ولا أعرف إلى أي مدى كان من المفيد أن تقرأ الناشطة السيدة جوزفين عقيقي بيان الحملة النسائية على الشاطئ، وهي المولودة مسيحية ومن سكان كسروان. فإن كانت الرسالة هي في أن الشاطئ لجميع اللبنانيين، لأيّ طائفة او منطقة انتموا، كما يقول الدستور، فإن ذلك يشير أيضاً إلى تردّد في المواجهة المباشرة، بين النساء المسلمات ورجال دينهم وبيئتهم. مع العلم بأن من بين النساء المشاركات في الحملة أكثرية مسلمة، كما أن الكثير من النساء المحجبات أو المنقبات، شاركن دعماً للشيخ وأتباعه ورفضاً للباس النسائي البحري.
في معرض الإشارة إلى أن أرقام الإحصائيات لا تعطي فكرة واضحة عن الواقع الذي تتوخى العلوم الإنسانية دراسته، جرى التداول بمقولة أن "الإحصائيات، مثلها مثل المايوه، تظهر كل شيء ما عدا الأساسي". يبدو لي، أن النقاش حول حق ارتداء المايوه النسائي على شاطئ صيدا، أظهر الكثير لكنه لم يتطرق إلى الأساسي، بعد.