د. ناصر زيدان
مروى ثمانينية لبنانية وحيدة تسكن عند شقيقتها هرباً من الوحدة غير المحمودة لمن في مثل عمرها. تملك بيتاً صغيراً في بلدتها، تركه لها والداها بعد أن غادرا الى دنيا الحقّ. ذهبت ذات صباح لتتفقّده، فإذ بها تتعثر وتسقط أرضاً، التفَّ حولها الجيران بعدما عجزت عن النهوض، لأنّ الوقعة أدّت الى كسور في عظام وركها، والجيران عجزوا عن نقلها مباشرةً الى المستشفى التي تبعد 20 كلم عن البلدة – كما كانت تجري العادة في مثل تلك الحالات، حيث مَن يصل بدايةً الى المُصاب يمارس دور المُنقذ، ورجل الإسعاف في سيّارته الخاصّة – لأنّ الجيران لم يعُد بمقدورهم المغامرة في تحريك سياراتهم بسبب غلاء البنزين، أو لأنّه غير متوفّر في خزّانات هذه السيارات.
نقلها ابن شقيقتها الى المشفى الحكوميّ الأقرب كونها غير مضمونة، ولا تملك أيّ مبلغ من تكاليف العلاج، وبعد الفحوصات الأوّلية، تبيّن أنّها تحتاج إلى عملية تجبير، ويلزمها قضبان الفضّة المناسبة، وثمن تلك القضبان 2000 دولار أميركيّ، والمستشفى لا يستطيع الحصول عليها لأنّ التسعيرة الرسميّة المسموح صرفها على هذه القطع تبلغ نحو 7 ملايين و800 ألف ليرة لبنانية، بينما ثمنها الفعلي (على ذمّة مستوردي المستلزمات الطبّية) 58 مليون ليرة، فيما قيمة راتب ابن شقيقها السنوي لا يصل الى 30 مليون ليرة، وهو بالكاد يحصل من خلاله على طعام عائلته، ولا يوجد من المحيطين بمروى مَن هو متمكّن ماليّاً لتأمين المبلغ، فعادت مروى أدراجها الى منزل شقيقتها تداوي آلام الكسور المبرِّحة بدموع البكاء.
شاهدتها بالصدفة بعد ثلاثة أيام من الحادثة، وعيناها مغرورقتان بالدموع، ورقراق الدموع بلَّل جوانب قماشة حجابها الناصع، وهي رفعت الحجاب لتغطّي الوجنتين، لإخفاء صفاء الخجل، ولاعتقادها أنّ ذلك يحمي الكرامة الشخصية التي تحرص عليها رغم كلِّ عناء. الجوّ فرض الإسراع والمبادرة الى الاتّصال بمرجعية أكثرت من تقديم المساعدات في السنوات الأخيرة، فوافقت على مساعدتها بمبلغ 30 مليون ليرة لبنانية من أصل 58 مليوناً. تمّ الاتصال بمستشفى خاص كبير، وأذن المدير باستقبال مروى فوراً، رغم أنّ المستشفى بالذات تحمَّل الكثير من المصاعب المالية منذ بداية جائحة كورونا مروراً بالأزمة المالية، وهاجر أغلبية أطبائه وممرضيه بحثاً عن مورد ماليّ يكفي لتغطية تكاليف معيشتهم، وحالة هذا المشفى تشبه غالبية المشافي اللبنانية التي تأنُّ تحت وطأة الأزمة الخانقة، وهي مهدّدة بالإقفال.
حكاية مروى ليست رواية تُثير الشغف لسماعها أو لقراءتها؛ بل إنّها واحدة من المآسي التي يعيشها الشعب اللبناني المنكوب بغالبيته، وهؤلاء عاجزون عن الحصول على الاستشفاء والدواء، ويواجهون المصاعب في استمرار تعليم أبنائهم في المدارس والجامعات، أو تأمين وصولهم الى هذه المرافق على أقلّ تقدير، وليس بمقدور غالبية العاملين منهم الوصول الى أماكن عملهم بسبب غلاء المحروقات وتدنّي قيمة الرواتب، خصوصاً الموظّفين في القطاع العام، وفي المقدّمة رجال الجيش والقوى الأمنية الأخرى.
ماذا يمكن أن نقول في السياسة؟
ما يجري في لبنان أكبر من أن يوصف، رغم أنّ هناك شعوباً عديدة تعيش حالة فقر وعوَز واضطهاد وحروب، لكنّ هؤلاء لم يفقدوا القدرة على الوصول إلى أموالهم - اذا كانوا يملكونها - كما حصل في لبنان، وبعضهم يحصل على رعاية إنسانية او دولية بالحدّ الأدنى، لكنّ اللبنانيين متروكون لقدرهم البائس، ووقعوا في حالة العوَز والإفلاس بسرعة فائقة، قبل أن تتبلور فكرة العيش بجهنّم عندهم، وكلّ ذلك وسط استهتارٍ من الحكام والمسؤولين عن قيادة السفينة، الذين يتلهّون في تحميل المسؤولية لغيرهم، ولم يبادروا الى اتخاذ أيّ خطوة إنقاذية في الاتّجاه الصحيح منذ ثلاث سنوات، وفقاً لما جاء في تقرير البنك الدوليّ الذي نشر في 25 أيار الماضي حرفيّاً.
يا له من زلزال هائل ضرب لبنان، صنعته الأيادي العابثة وليس الطبيعة المضطربة، وآلام كسور قدم مروى التي لا تُطاق؛ يشعر بها كلّ اللبنانيين الذين يداوون الألم بالبكاء والصبر، بينما المرض يتفشَّى من دون أيّ علاج.
لبنان بلا كهرباء وبلا ماء وبلا دواء، وربما قريباً بلا طحين، ومن دون أصدقاء ولا أشقّاء يسعفونه، بينما يتلهّى المسؤولون عن إدارة الدولة برعاية مصالحهم الخاصة، أو بتوفير الأرضية المناسبة لجهات خارجية تحتاج لبنان منصّة تفاوض لخدمة أهدافها.
تعميم المسؤولية عن التعطيل والفشل في إدارة الدولة؛ تعمية عن الحقيقة، والتعميم يساعد المرتكبين على النفاذ من المسؤولية عن جرائمهم. "العنزة مقتولة والذيب طالع من حدها"، ذلك المثل اللبناني القديم يشخِّص حالة لبنان، وخانقو لبنان، ومسببو دموع الألم لدى مروى معروفون، ويُشار اليهم بالبنان.