يواجه مشروع مدينة "ذا لاين"، في منطقة "نيوم"، شمال غرب السعودية، حملة تشكيك بقدر ما يلاقيه من تعجّب وإعجاب ودهشة. فقد تابعت أخيراً التعليقات والمقالات المنشورة في الصحف الغربية وهالني مقدار الصدمة الفكرية والنفسية التي تسبّب بها المشروع. فما بين معجب وغير مصدّق، وما بين مؤمن ومشكك، يشتدّ الجدل. كما لاحظت الفارق بين ما ينشره ويذيعه الإعلام التقليدي (المحافظ واليساري) العام منه مثل الإيكونومست والغارديان والواشنطن بوست، أو المتخصّص كدوريات الهندسة والبيئة والمناخ، وبين ما يذاع في البث المباشر للمعلقين والمؤثرين عبر الإذاعات الخاصة ووسائل التواصل الاجتماعي.
سرّ الصدمة
سبب الصدمة، كما قيل تصريحاً وتلميحاً، أن المشروع الضخم غير مسبوق، ومفاجئ، و"خيالي"، وأن ما نُشر عنه يبدو كأنه لمستوطنة بشرية ستنشأ على المرّيخ، وأن الحياة داخل "نيوم"، تبدو كأنها مستوحاة من أفلام الخيال العلمي. ولذا، فإن الطبيعي، من منظورهم، أن تقوم به وكالة ناسا، مثلاً، في حواضر أميركا، لا بيد "عرب الصحراء".
وسببهم الآخر، أن حجم المشروع وتكلفته المادية والتقنيات المستقبلية التي يتطلبها يوحي بأن أهدافه دعائية، وأن تحقيقه مُحال، وإذا أصرت القيادة السعودية على استكماله فسيفشل بدون التقنية والاستثمار والتمويل الغربي المتحفظ. فكمّية الاختراعات المطلوبة لتنفيذ تصاميم المشروع، تصل الى الآلاف. وتتطلب مشاركة مئات المختبرات والمعامل ومراكز البحث العلمي. كما أن تمويل هذه الدراسات وتجريبها ثمّ تطبيقها ليس مكلفاً فحسب، بل غير مضمون التحقيق والجدوى.
الخيال العلمي
أما المتحمسون للمشروع، فهم غالباً من المستقلين، وكذا من المتخصّصين في علوم البيئة والتنمية الحضرية وتقنية البناء الأخضر، إضافة الى جيل سلسلة أفلام "حروب الفضاء" و"ماتريكس"، المتشوّقين لتجربة مستقبلية باهرة. ومن ذلك الأبراج المعلقة بمنطقة انعدام الجاذبية، وحديقة "جوراسيك بارك"، والحدائق البابلية المعلقة، وحدائق النباتات النادرة من القطبية الى الاستوائية، واجتماع الفصول الأربعة، والصحون الطائرة، والتاكسي الفضائي، والملاعب والحدائق والملاهي المحلقة بارتفاع نصف كيلومتر، والمرفأ المخفيّ، والتنقل عبر الأبعاد الثلاثية، واستخدام سور المرايا في إنتاج الطاقة، والروبوت في الزراعة والخدمات، والذكاء الصناعي في إدارة المدينة.
وأظهر بعض مشاهير التواصل الاجتماعي قناعتهم بالمشروع، وحماستهم لزيارته أو العيش فيه. وبلغ متابعو فيديوهاتهم وتغريداتهم عشرات الملايين.
الأرض أولى من الفضاء
أما خبراء البيئة فيرون التجربة ممكنة التحقيق ويدعون العالم الى تبنّيها، ودعمها. وجادل أحدهم بأن السعودية تقدّم أنموذجاً الغرب أولى به، لولا انشغاله بسياسات وتشريعات وجدليات النفط والبيئة. فأكبر بلد مصدّر للمنتجات الأحفورية قرّر التركيز على تطوير مدن تعتمد بالكامل على الطاقة الخضراء، وتتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء والماء، وتخفض البصمة البيئية الى خمسة بالمئة، والى صفر انبعاثات كربونية.
وعلّق آخر بأن على المشككين المشاركة. فقد بدأت الرياض مشوار الألف ميل وهي بحاجة الى من يسهم في رسم خريطة الطريق، ويموّل حملة الاكتشاف، ويسهم في توفير التقنية المطلوبة. وبدلاً من "تكسير المجاذيف" فالأولى بالغرب الاستفادة من النتائج والمعارف المكتسبة. وسواء نجح المشروع اقتصادياً أو فشل، فالسعودية ستكون قد قدّمت للعالم اكتشافات علمية رائدة، ربما كانت أكثر فائدة للكرة الأرضية من الرحلات الفضائية الاستعراضية المكلفة.
وفي تقديري، إن المعارضين جاؤوا لنفس أسباب من حارب مشاريع المدينتين الصناعيتين، الجبيل وينبع، في ثمانينيات القرن الماضي. فالأفكار الرائدة، في عرفهم، يجب أن تتحقق عندهم أولاً، ثم يشتريها العالم منهم. ولأن هذه الدول تنظر إلى الشرق والجنوب بتوجّس وفوقية، فقد حاربت نهضة الصين وماليزيا وأندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا، وسعت الى رسم حدود لطموحنا في الانعتاق الاقتصادي والعلمي والسياسي من هيمنة الاستعمار الجديد.
التحدّي الخليجي
وبالنسبة للسعودية وأشقائها الخليجيين، فقد نجحت مشاريعها التنموية الكبرى لأنها تبني بإرادتها وتشتري بمالها، تعطي ولا "تستعطي"، وليست مكبّلة بديون سيادية، ولأنها حرصت منذ البداية على استقلاليتها وسيادتها، وعملت في العقدين الأخيرين على تنويع شراكاتها الاقتصادية، مع الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية والتفضيلية مع أوروبا والولايات المتحدة.
وكما فعلت الرياض لتنفيذ أكبر مراكز الصناعات البتروكيمائية والأساسية، تتوجه اليوم الى الشرق قبل الغرب، لدعم رؤيتها التنموية. أما التمويل، فكما كانت قادرة في الماضي على توفيره بمواردها الذاتية، قبل أن تقتنع البنوك العالمية بجدّية المشاريع وجدواها، فهي اليوم أقدر.
شراكات جديدة
وفي هذا السياق، تأتي زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، المرتقبة، حسب مصادر إعلامية، لكوريا الجنوبية، وأنها ستشهد التوقيع على عقود مشاريع كبرى، كإنشاء أول محطة نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، فازت به سيئول بعد منافسة شديدة مع شركات أميركية وروسية وصينية، بالإضافة الى مشاريع نيوم، "ذا لاين"، و"أوكساجون" الصناعية، و"تروجينا" السياحية وجزر البحر الأحمر.
وعلى المسار نفسه، تأتي القمة العربية - الصينية المرتقبة للرئيس شي جين بينغ، خلال زيارة للسعودية أشارت مصادر إلى أنها ستشمل "نيوم" لتفقد مشاريع بلاده في عاصمتها "ذا لاين". علماً بأن بكين تشارك في مشاريع كبرى صناعية وإنمائية، مدنية وعسكرية، ومنها بناء منصّات لوجستية وخدماتية على مسار طريق الحرير والطوق البحري، الذي يصل آسيا بأفريقيا وأوروبا، عبر السعودية.
ويتوقع أن يقوم الرئيس البرازيلي بزيارة مماثلة للرياض، لتعميق التعاون الصناعي والعلمي والتعليمي والتجاري بين البلدين. وتتبادل الوفود السعودية والجنوب أفريقية الزيارات لبحث اتفاقيات تشمل الزراعة والصناعة والسياحة والتعدين، إضافة الى التقنيات الرقمية والذكاء الصناعي، والاقتصاد الأخضر والهيدروجين، وهي من أبرز اهتمامات مشاريع نيوم الصناعية، حسب موغوبو ديفيد مغابي، سفير جنوب أفريقيا في الرياض. كما يستمر على المسار نفسه التعاون في المجالات عينها وغيرها مع اليابان وروسيا والهند وماليزيا وتركيا واندونيسيا وتايلندا والارجنتين بالإضافة الى الشركاء الأميركيين والأوروبيين، خاصة فرنسا وبريطانيا وإسبانيا واليونان وإيطاليا، والدول الاسكندنافية.
تحدّي أرامكو
هذا المزيج المتنوّع والطيف الواسع من الشراكات الاقتصادية، إضافة الى الموارد الذاتية والحليفة، يمثل شبكة أمان لمشاريع السعودية. وتردّد البعض في دعم رؤيتها "الفضائية" الطموحة لن يحول دون تنفيذها. فعندما أعلنت الرياض عن تخصيص أكبر شركات الطاقة في العالم، لأرامكو، وبيع نسبة 1.5 % من أسهمها، شككت المؤسسات المالية الغربية في تقييم الشركة، ونصحت صحف كبرى مثل الوول ستريت جورنال والفايننشال تايمز المستثمرين بعدم الشراء، وطالبت عواصم غربية بإطلاق الاكتتاب في بورصات لندن ونيويورك وفرانكفورت، ودعت دور استشارات وبنوك دولية الى تأخير الموعد وخفض السعر.
أصرّت القيادة السعودية على الالتزام بخريطة الطريق، فطرحت السهم بالسعر المحدّد، في الوقت المحدّد، وبالكمّية المحدّدة، وفي البورصة السعودية. نجح الطرح، فأقبل المستثمرون الأفراد والصناديق الآسيوية والروسية والخليجية، وزاد الطلب على العرض. وواصل السهم ارتفاعه من سعر الاكتتاب (32 ريالاً) الى أكثر من 40 ريالاً، وأصبحت أرامكو أغلى شركة في العالم وأعلاها ربحية. كما باتت أكثر شركات الطاقة تنوّعاً في شراكاتها واستثماراتها الدولية، وأنشطتها ومجالات عملها الممتدّة أفقياً وعمودياً، وصولاً الى تصنيع المواد الاساسية ومشتقات الوقود والزيوت وشبكات نقلها وتوزيعها، وتستعد اليوم لطرح 2.5% من أسهمها. وفي المحصلة، كسب من راهن على الرؤية السعودية، وخسر من راهن ضدها.
أسباب النجاح
ويبقى السؤال: كيف ستنجح مشاريع "نيوم" في وجه عواصف التشكيك؟
الجواب يتلخص في أربعة أسباب: "الإرادة السياسية" و"التوافقية الوطنية" و"الملاءة الفكرية" و"الكفاءة التنفيذية". وبها نجحت الإرادة السياسية في رسم خريطة طريق، ورؤية مستقبلية، وخطط استراتيجية متضامنة، متناسقة، متزامنة، وإن تجمع لها إرادة التنفيذ من حكومة موحّدة، وقطاع خاصّ مدعوم، وإعلام تنموي واعٍ، ومجتمع متكاتف، ثم تحميها من المشكّكين والمتآمرين والمعطلين في الداخل والخارج.
هذه المزايا يصعب تأليفها في الأنظمة الديموقراطية التي تتجاذب فيها القرار قطاعات حكومية تنفيذية وتشريعية وقضائية من جانب، وكيانات مالية وتجارية وحقوقية من جانب آخر. فيما تقيّد إرادة السلطة السياسية دوافعها القصيرة المدى، والسياسات الحزبية والحسابات الانتخابية.
(أ ف ب)
وهذه التوازنات والممحاكات تضعف قدرة الدولة على تبنّي المشاريع المكلفة والعالية المخاطرة، وتميل لصالح المشاريع الوطنية المضمونة الجدوى، السريعة المردود لحساب الإدارة الحالية، أو لمشاريع القطاع الخاص المحكومة بالقوانين والتمويل، وتقلبات السوق، والمؤثرات الشعبية والإعلامية.
رهان الخليج
مشاريع الرؤية السعودية وغيرها من خطط التنمية الخليجية، أمثلة جديدة على مزايا نظام الحكم الرشيد فيها. وعلى المشككين مراجعة سجل هذه البلدان في العقود الماضية، ومقارنته بنظيره لدى دول كبرى تدّعي أنها تملك وحدها النموذج الأمثل للحكم المستنير، والتنمية المستدامة، والحلول السحرية لتقدّم البشرية. ثم لهم أن يختاروا بين اللحاق بركب الاستثمار والربحية الذي يتسابق عليه المبادرون، أو الانتظار على أرصفة التردّد والتشكيك والتعالي، حتى تطير الطيور بأرزاقها ولا يبقى لهم إلا الفتات.
* أستاذ بجامعة الفيصل
@kbatarfi