لم تتمكن الصين، حتى الآن، سواء من خلال مناوراتها العسكرية وعقوباتها الاقتصادية وتحذيراتها السياسية، من ردع تايوان والولايات المتحدة اللتين تمضيان قدماً في تحدّي بكين بشتى السبل وآخرها كان إعلانهما عن خطة لبدء محادثاتهما التجارية... فأيّ مستقبل لها؟
في محاولة استشرافية لهذا المستقبل سنعود خطوة إلى الوراء ونسأل: لماذا تتهم الصين الولايات المتحدة بانتهاكها مبدأ "الصين الواحدة". ذلك أن هناك ثلاثة بيانات أميركية-صينية تشير إليها بكين، تصريحاً وتلميحاً، في غير مناسبة:
– الأول يُدعى بيان شنغهاي الذي يعود إلى عام 1972 ويمكن القول إنه وضع الأسس للعلاقات الثنائية التي تقوم على احترام كل من الطرفين سيادة الآخر. وأعلنت فيه واشنطن آنذاك رغبتها في صين موحّدة غير متجزّئة.
– الثاني يعود إلى كانون الثاني من عام 1979، أعلنت فيه واشنطن أنها قد تنهي علاقاتها مع تايبيه، لكنها ستحتفظ بالروابط الاقتصادية والثقافية معها.
– الثالث جاء في آب من العام ذاته لتعلن فيه واشنطن رغبتها في تقليل مبيعات السلاح لتايوان تدريجاً.
إذن يبدو أن موقف واشنطن الملتبس في العلاقة مع تايبيه دأبت على تعزيزه الإدارات الأميركية المتعاقبة. فالبرغم من دعم أميركا الصين في الحصول على مقعد أممي وانتزاع اعتراف دولي، لم تنقطع مبيعات السلاح إلى تايوان. ومنذ تنصيب الرئيس الأميركي الحالي جوزف بايدن وافقت واشنطن على خمس عمليات بيع أسلحة لتايوان وتمّت أربع منها في خلال العام الجاري.
الجدير بالذكر أنه منذ عام 2010، أعلنت واشنطن عن صفقات أسلحة لتايوان بقيمة فاقت 23 مليار دولار، بحسب البنتاغون، شملت مقاتلات ودبابات وصواريخ، فضلاً عن إطلاقها محادثات تجارية ترمي إلى تعميق العلاقات الاقتصادية، حيث تُعدّ تايوان ثامن أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة، فضلاً عن دعم الأخيرة للجزيرة للحصول على عضوية المنظمات الدولية والحضور في المحافل العالمية.
إزاء هذا الموقف لا ترى الصين دعماً بل استفزازاً متصاعداً. أما الولايات المتحدة فتؤكد أن دعمها هذا "يؤطّره" قانون العلاقات مع تايوان الذي يعود إلى عام 1979 والقاضي بمدّ الجزيرة بالسلاح، ما يعني بطريقة أو بأخرى أن التدخل العسكري المباشر ليس حتمياً لكنه غير مستبعد.
ليس جديداً القول إنه، وفق العُرف السياسي، يُطلق على الموقف الأميركي هذا إزاء تايوان تسمية "الغموض الاستراتيجي" غير أن بكين ترفض المكوث في المنطقة الرمادية، ولذا تبرق برسائل من خلال مناوراتها العسكرية وطلعاتها الجوية والبحرية في محيط الجزيرة ولعلّ آخرها تمثّل باختراق 51 مقاتلة أجواءها، ما يُنذر بتوتر ينعكس على مضيق تايوان.
على الرغم من الحرب العالمية، المحدودة جغرافياً والمنفلشة دولياً، التي تدور رحاها في أوكرانيا، حجزت تايوان لنفسها مكانة في صدارة عناوين الأخبار في الآونة الأخيرة. ما يقودنا إلى السؤال حول كيفية حصول هذه الجزيرة التي تتخطى مساحتها 36 ألف كيلومتر مربع بقليل، على مكانتها الاستراتيجية هذه في ظل توزّع خريطتها الاقتصادية بين الأقطاب العالمية، خصوصاً أن عدد سكانها يتجاوز 23 مليون نسمة، ما يعني أنها ذات كثافة سكانية من الأكبر عالمياً، لكنها تحتل المركز الـ21 بين اقتصادات العالم بناتج محلي إجمالي بلغ 807 مليارات دولار أميركي في 2021، كما يتجاوز نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي 33 ألف دولار أميركي، فيما يناهز احتياطي النقد الأجنبي 280 في المئة من هذا الناتج.
في أدبيات الاقتصاد يصف الخبراء اقتصاد الجزيرة بالمعجزة نظراً لنموّه المطّرد ليكون شاهداً على قفزات واسعة في خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ففي عام 2021، شهد نموّاً بنسبة تفوق 6,57 في المئة وهو الأسرع منذ عام 2010 بفضل الطلب العالمي القوي على المنتجات الإلكترونية التي أفادت صناعة أشباه الموصلات في الجزيرة التي تُعدّ كلمة السر ربما في اقتصاد تايوان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تستحوذ شركة TSMC على 54 في المئة من إجمالي إنتاج العالم لأشباه الموصلات، وبفضل مبيعات هذه الرقائق الإلكترونية تتمتع تايبيه بفائض تجاري إجمالي يتجاوز 65 مليار دولار مرتفعاً بنسبة تزيد على 9 في المئة مقارنة بالعام السابق.
في السياق ذاته، وبالنظر إلى صادرات تايوان نجد أن اقتصادها يقوم على صناعات رئيسة تتصدرها الآلات والمعدات الكهربائية بنسبة 49 في المئة، أجهزة الكمبيوتر 13 في المئة، المواد البلاستيكية 6 في المئة والمواد البصرية 4,5 في المئة وأخيراً المركبات 3 في المئة والمنتجات الأخرى 24,5 في المئة.
فيما تتربع خمس دول على عرش الصادرات التايوانية، إذ تتصدّر الصين القائمة بنسبة 28 في المئة، الأمر الذي يعتبر منطقياً جداً قياساً بالقرب الجغرافي بينهما والذي يبعد فقط 130 كيلومتراً، وبعيداً منها تحتل الولايات المتحدة المنافسة الأولى للصين المرتبة الثانية بنسبة 15 في المئة، تليهما هونغ كونغ بنسبة 14 في المئة، ومن ثم اليابان 6,5 في المئة وسنغافورة 6 في المئة.
في العموم، الصورة ليست دائماً زاهية، فتعاني تايبيه أخطاراً تحدق باقتصادها وعلى سبيل المثال دينها الخارجي الذي لا يزال مرتفعاً قياساً بناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 113 في المئة على الرغم من انخفاضه من قرابة 130 في المئة عام 2018. أما دينها الحكومي فبلغ 34 في المئة عام 2020 بعجز مالي وصل إلى مستوى قياسي زاد على 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام ذاته. كما تبرز الإشارة هنا إلى نسب الشيخوخة المرتفعة لدى السكان والتي ستبلغ 20 في المئة بحلول عام 2026.
بيد أن التوتر السياسي مع الجارة الصينية يبقى أكثر ما يتهدّد الجزيرة ويجعلها تعيش على صفيح ساخن خشية وقوع حرب مؤجلة.
أمام كل هذه المعطيات تبرز جملة تساؤلات حول الأهمية والمكانة الاقتصاديتَيْن لتايوان بالنسبة لواشنطن من جهة وماذا تخسر واشنطن إذا تزعزعت علاقتها التجارية معها؟
تُعدّ تايوان شريكاً استراتيجياً بالنسبة للاقتصاد الأميركي، خصوصاً لجهة التجارة الرقمية، وهي السياسة التي اعتمدتها تايبيه قبل سنوات بغية تنويع الاقتصاد تلافياً لاعتمادها على السوق الواحدة والمقصود هنا الصين طبعاً. كما كانت الولايات المتحدة تنظر إلى تايوان كشريك رئيسي واستراتيجي في بعض الصناعات على غرار أشباه الموصلات والصناعات المصرفية، فضلاً عن التعاون بين الشركات الصغيرة والمتوسطة الأميركية "Small and Medium Enterprises (SME)" وأخيراً وليس آخراً، تم تطوير صناعة المستودعات الاستراتيجية لتخزين السلع للحؤول دون اعتمادها الكلي على السوق الصينية في تخزين السلع التايوانية، الأمر الذي من شأنه تعزيز نفوذ الولايات المتحدة في منطقة بحر الصين وخلق بيئة مناسبة لزعزعة النفوذ الصيني إذا ما حاولت بكين استخدام ورقة تايوان في المستقبلين القريب أو المتوسط.
في هذا الإطار، قد يقول قائل: هل تدفع الأهمية الاستراتيجية لتايوان، سياسياً واقتصادياً، الولايات المتحدة الأميركية نحو خيارات أكثر جموحاً أو مجازفةً تجاه تايبيه في مواجهة الصين؟
قبل الإجابة يجب الإقرار بأن تايوان ستبقى في حسابات أميركا بمثابة ذاك الميزان الذي ينبغي، من حين لآخر، تعديل كفّتَيْه. وإذا ما استندنا إلى نظرية إسحق نيوتن في الفيزياء التي تنسحب على العلاقات الدولية "لكل فعل رد فعل في الاتجاه المعاكس" يتبيّن أن العلاقات بين واشنطن وبكين تتأرجح سلباً أو إيجاباً عند نقطة تايوان. ولعلّ ما يُوصف بالضبابية الاستراتيجية هو في واقع الأمر يأتي نتيجة هذه الثنائية أو بمعنى أدق الازدواجية السائدة حالياً لدى الإدارات الأميركية بحيث لا تقيم علاقات ديبلوماسية مع تايبيه لكنها في المقابل تتعهّد تباعاً بدعمها اقتصادياً وعسكرياً وتأمين الحماية لها في مجالي الديموقراطية وحقوق الإنسان، ما يجعل تايوان، إذا جاز التعبير، محميّةً جيو-استراتيجية من خطر الابتلاع الصيني.
في المحصلة، وفي إطار الصراعات على المصالح الاقتصادية التي أنتجت خلافات ونزاعات دولية سادت أزمنة غابرة وما زالت حتى اليوم مع اختلاف الأشكال والأنماط والمفاهيم، نستذكر نظرية الكاتب والمفكر الأميركي "ديل لمنع الصراعات" التي تتلخّص بأهمية الروابط الاقتصادية التي تمنع اندلاع الحروب، خصوصاً أن العصر الرقمي الذي يسود عالم اليوم ويتحكّم بتفاصيله وجزئياته يجعل من تايوان، دولة وشعباً، رصيداً دولياً استراتيجياً وليس فقط إقليمياً... إلّا إذا!