رغيد أبي رعد
هنالك بين الرابية الشرقية والغربية، في أرض مطمئنة عمّا يحيط بها من هضاب وآكام، تستريح أشجار السرو والحور والزيتون، وسط كروم متناسية. يسقيها الغيث وسيلان الثلوج، أبصر أجدادنا النور على مشهد القطاف، حيث كنّ النساء يلتقين عند كل بزوغ، لخبز أرغفة الخير والبركة على لهيب تنور عابق برائحة الحطب والفطير. فيما الرجال يلتقون عند كل شروق لحراثة الأرض، يقضون وقتهم بالكدّ في الطبيعة لتأمين قوتهم ومصدر رزقهم . عند كل مغيب يعودون أدراجهم قبل أن تبتلعهم العتمة عند المغيب. هكذا أمضى أجدادنا حياتهم في "بقاع لبنان". وهناك موطن قلبي؛ قبل أن أصبح ذلك البيروتيّ اليافع، تائهاً في مدينة عشقتها منذ طفولتي.
بيروت التي تحمّلت الويلات، والانكسارات، والحروب والخيانات لم تبخل يومًا في الدفاع عن أبنائها، الذين حاربوا حتى آخر رمق، إنها ستّ الدنيا. فيها غابات الصنوبر ترتاح على شدوِ حنجرة وديع الصافي، وفي سماها تصدح مسرحيات الأخوين الرحباني، وعلى جدرانها استوطن فكر جبران خليل جبران منذ أن كتب لهم لبنانهم ولي لبناني. وهكذا أنا. لي لبناني الذي أعشق وأحبّ. مهما حاولوا إكراهي به يبقى كمعشوقة انتظرتها منذ طفولتي.
إزدحمت شوارع بيروت بالمقاهي التي استقبلت كل زائر وقع في حبّها لاسيما الكتّاب، والشعراء، والأدباء. تناقلوا الأحاديث بين أزقّتها الضيقة. هنا أسير صباح كلّ يوم، متّجهًا نحو مدرستي، أطلب العلم، لا أخاف المجهول، لأنّني أعرف ما أريد. أريد البقاء في وطني وأنبذ فكرة الرّحيل. ولو كانت مجرّد فكرة. أعجب من أترابي الذين يحلمون بالرحيل إلى المجهول فيما هم يعيشون مجهولين في وطنهم لبنان. هذا الشعور الذي لا يعتريني لأنّني مؤمن بأنّ لبنان وطني، ولن أرحل أبدًا.
إلتقيتها عند آخر محطات النهار، حيث كانت الشمس تسحب آخر ذيولها عن سفوح صنين كعودة عسكر في نهاية حرب ضروس أضاحيها فلول من هياكل فينيقيّة ورومانيّة وصليبيّة ومملوكيّة وتركيّة وفرنسيّة؛ وفلول عساكر من كلّ الأجناس. مشهد حفر عميقاً في ذاكرتي، رائحة الحبق التي زرعتها جدتي تغرف عطرها الفوّاح من أواني المطبخ العتيقة. هنالك عند سفح ذلك الجبل حيث كنت أصغي إلى ناي راعٍ يتوه بين قطيعه في ذاك الوادي الفسيح، يستريح الأبد عند أقدام الأزل.
أعود في مساءات آب أفترشُ سطح الدار والنسائم تداعب شعر قريتي والأشخاص فيها. تلك الطفلة التي تركتها بعد نزوحي، صارت صبيّة ضفائرها تغازل الرّيح، وعيناها تنظر إلى السماء، وترمق القمر. وأنا أرنو إليه في كيان عينيها. بقيت متشبثاً بأطراف الليل محاولاً الإمساك بالنهايات وإعادته لكن عبثاً. تسلّل الضوء وذابت العتمة في المكان حيث اللازمان استراح في هاتيك الآفاق السحيقة. وغفونا معًا في كيان الله.
أعود إلى "بيروتي" التي صارت مدينتي. فيها الثورة والحريّة، والفقير والغني، والفرح والحزن. بيروت التي فجّروها لكنّها صامدة؛ على الأقلّ في وجداني أنا البقاعيّ الذي عشقتها حتّى صارت عروسي. فيها تربض حجرتي، قوامها مذياع وبعض الصور المعلقة في ذاكرتي. عند كلّ إشراقة أنهض، ألملم شتات أحلامي وأمضي. أكرّر عبوري على ذلك الطريق. المشهد يكرّر نفسه كل يوم. أرتشف كلام المارة في شارع المدينة مستقلاً الباص الذي لم يملّ يومًا من انتظاري متجهًا إلى "بدارو"، حيث مدرستي "سيدة الملائكة" البوصلة التي كلّ ما كنت أضلّ الطريق تحملني وتعيدني إلى جهة العلم والسلام.
عندما تغلَق الأبواب كلّها في وجداني ألتحف البحر من جهة الجنوب حيث الإصغاء يصبح سيّد الموقف. إصغاء إلى موسيقى الموج كأنّها سمفونيّة خطّها الخالق على دفتر دنيانا. أرمق الشمس ترتاح خلفه، وعلى بعد خطوات الناس فرادة وجماعات، مواطنون وغرباء، تناديك فيروز "شايف البحر شو كبير،كبر البحر بحبك..." يمتدّ الحديث على امتداد الشاطئ، ويتوه عند آخر ساعات الليل بالقرب من قوراب الصيادين بانتظار مساء جديد.
أحنّ الى أيام لم أكن فيها، جلسة على حصير عند منحدر يطلّ على السهل الفسيح، ونسيم عليل يعزف لحنًا من حفيف أشجار الحور، وهسهسة جدول رقراق يتلوّى من البعيد. لكنّ بيروت تأسرني، وأتوه بين سهل البقاع وأبنيتها. لا أعرف كيف يكرهونها حتّى فجّروها وجرّحوها وقتلوها وقاتلوها! أعرف وجوههم. وأراهم يحاولون سرقة أحلامي فيها. لكنّني لن أسمح لهم.
هذا لبناني، من البقاع إلى بيروت. أحمله في قلبي. لن أغادرَه. وإن غادرته يومًا ... سأعود حتمًا لأنّني ما تعوّدت إلا العودة. بيروت عشيقتي. ولبنان وطني. وقريتي في البقاع موطن قلبي. ولا أعتقد أنّ أحداً يستطيع أن يترك وطنه حيث عشيقته وموطن قلبه.
اتّخذت قراري. أنا حتمًا باقٍ باقٍ باقٍ.