النهار

البنك الدولي ومفردات التخاطب في وصف أداء السياسيين
المصدر: "النهار"
البنك الدولي ومفردات التخاطب في وصف أداء السياسيين
طرقات العاصمة بيروت (أرشيفية - مارك فياض).
A+   A-
محمد فحيلي*


اختارت مكوّنات السلطة السياسية الحاكمة في لبنان عدم الدخول في سجال "القال والقيل" مع البنك الدولي، والتزمت الصّمت حيال المفردات المسيئة في تقاريره الأخيرة... خيراً فعلت!
 

البنك الدوليّ يحلّ ضيفاً على بلدٍ ما لتمويل مشاريع تنمويّة، ومحاربة الفقر، ودعم الصحة العامة وسلامة الغذاء؛ ولبنان كان بحاجة ماسة إلى خدمات البنك الدولي في عدّة محطات، منذ انطلاقة مسيرة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية. ساهم البنك الدولي في مشاريع عديدة في الماضي، واليوم هو إلى جانب لبنان لانتشاله من النكسات المتكرّرة التي يوقعه فيها حكّامه. وقف البنك الدولي إلى جانب لبنان في تأمين اللقاح ضدّ جائحة كورونا، وتأمين المال لمساعدة العائلات الأكثر فقراً، واليوم يساهم في إنجاح عمليّة استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، ويُظهر استعداداً كبيراً لتأمين السيولة اللازمة لاستيراد الطحين والقمح والحبوب للحدّ من أزمة الغذاء وتوفير الأمن الغذائي. 
 
بالمختصر المفيد، البنك الدولي صديق للبنان شعباً، ودائماً تحاول مكوّنات الطبقة السياسية تسجيل مكاسب وإنجازات لصالحها مع كل مشروع مع البنك الدولي وتستثمره في السياسة. وهذا الأداء كان المحرك الأساسي وراء اختيار المفردات وصياغة التقارير الأخيرة عن لبنان. قالها البنك الدولي كم يجب في تقاريره الأخيرة من "مخطط التمويل البونزي" (وهي عمليات احتيال وسرقة ممنهجة وبعد سابق إصرار وتصميم ومتابعة) إلى "الإنكار الكبير" (وهي قمة اللامبالاة في إدارة شؤون البلاد بالرغم من معرفة تداعياتها) في توصيف أداء الطبقة السياسية، التي هي ذاتها تحكم وتتحكّم في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية. إنّ لغة التخاطب هذه إن دلّت على أيّ شيء فهو أن البنك الدوليّ صديق الشعب اللبناني وليس للطبقة السياسية، ولكن أدبيّات وبروتوكول التواصل بين المؤسّسات الدولية والدول تفرض عليه التواصل مع الطبقة الحاكمة.

  

إن حجم ونطاق الكساد المتعمّد (بعد سابق إصرار وتصميم وليس نتيجة ظروف استثنائية خارج سيطرة مكوّنات السلطة السياسية) الذي يشهده لبنان حالياً يؤدّيان إلى تفكّك الركائز الرئيسة لنموذج الاقتصاد السياسي السائد (المكاسب السياسية لمكوّنات السلطة أصبحت المحرك الأساسي للاقتصاد في لبنان وليس النمو الاقتصادي) في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. ويتجلَّى هذا في:

انهيار الخدمات العامة الأساسيّة، وأصبحت الخدمات تُقَدم إلى أزلام الحكم.
استمرار الخلافات السياسية الداخلية المُنهكة للمواطن العادي؛ والعامل الأساسي وراء هذه الخلافات هو غياب الإرادة لتقديم أي تنازلات من أجل المصلحة العامة للوطن.
نزيف رأس المال البشري وهجرة الكفاءات على نطاق واسع في ظل غياب تام لأيّ استراتيجية وخطة عمل لإبقاء التواصل مع هؤلاء المواطنين ومحاولة إفادة الوطن من وجودهم خارجه.
وفي موازاة ذلك، تتحمّل الفئات الفقيرة والمتوسّطة العبء الأكبر للأزمة، وهي الفئات التي لم يكن النموذج القائم يلبّي حاجاتها أصلاً.

 
ولن يتردّد البنك الدوليّ في تقاريره عن توجيه التّهم بالمباشر إلى الأحزاب والتكتلات السياسيّة التي حكمت لبنان وتحكمّت بموارده والإشارة إلى: 
أن الكساد المتعمّد في لبنان هو من تدبير قيادات النخبة في البلاد، التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة، وتستأثر بمنافعها الاقتصادية. وقد استمرّت هذه الهيمنة على الرّغم من شدّة الأزمة، وباتت تُعرّض للخطر الاستقرار والسّلم الاجتماعي في البلاد على المدى الطويل. ولهذا السبب، نجد أنّ بعض الوزارات، خصوصاً "الوزارات السياديّة"، تحوّلت إلى شبه ملكيّة خاصّة لبعض الأحزاب السياسيّة، وتُوظف خدمات هذه الوزارة لمصلحة الزبائنيّة السياسيّة من دون منازع، لأن هناك اتفاقاً بين مكوّنات الطبقة السياسيّة على كيفيّة توزيع أصول الدولة والخدمات العامّة على أزلامها.
إفلاس نموذج التنمية الاقتصادية للبنان الذي ازدهر بفضل تدفّقات وافدة كبيرة لرؤوس الأموال، ودعم دولي، في مقابل وعود بإجراء إصلاحات. لم يتوقّف الدّعم من مؤتمر باريس 1 في سنة الـ2001؛ وتتابع السّلطة السياسيّة الحاكمة النّهج ذاته في الاستمرار بتقديم الوعود الفارغة لإجراء الإصلاحات، والشاهد على ذلك اليوم هو الاتفاق المبدئيّ (Staff-Level Agreement) مع فريق عمل صندوق النقد الدوليّ. هذا الاتفاق المبدئيّ يرتكز على مجموعة من الإجراءات المسبقة الضروريّة لإعطاء جرعة من المصداقيّة للطبقة السياسيّة التي تحكّمت في البلاد لسنوات عديدة، ونهبت وأهلكت كيانه. وكان "اتفاق الطائف" خشبة خلاص زعماء الحرب الأهليّة. اليوم، الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي سوف يكون خشبة خلاص "قيادات النخبة" التي أثبتت جدارتها بتغييب الحوكمة في إدارة البلاد، وتعميم الفساد، وتفعيل هدر المال العام. وكما اختاروا ما يناسبهم من اتفاق الطائف، وسارعوا لإقراره وتتفيذه، وأسقطوا كلّ ما يهدّد حصولهم على مبتغاهم، سوف يحاولون الوصول للشيء ذاته مع صندوق النقد الدولي. 
أين عمل أجهزة الرقابة في الدولة اللبنانية: التفتيش المركزيّ، ديوان المحاسبة، مجلس الخدمة المدنيّة، وغيرها؟ أين استقلاليّة القضاء والشاهد الأكبر على القضاء السياسي (كما الاقتصاد السياسي) هو التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب من سنة الـ2020. وكلّ ما طلبه صندوق النقد من إصلاحات يتمّ تقديمه بصياغة لا تكبّل أيديهم، وتعطيهم مساحة كافية للهروب من المساءلة والمحاسبة. تحصّن الفاسد بالقانون والدستور لإعاقة التحقيق في جريمة المرفأ؛ والتعديلات في قانون السريّة المصرفية جاءت على النهج ذاته. في لبنان فقط نجح المشرّع في إقرار قوانين على قياس الفاسد ولحمايته وليس لمحاسبته!
 

ما يعطي الأزمة في لبنان اليوم أهميّة استثنائيّة هو أنّها تحدث في بيئة جيوسياسيّة تتّسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد من الحاجة إلى المعالجة السريعة لهذه الأزمة الحادّة. ولكن لا حياة لمن تنادي!

 مقتبساً شخصية "رجل الدولة،" ومتحصّناً بالدستور والقانون، أعطى لنفسه الحق المطلق باستخدام المالية العامة كأداة لسيطرة ممنهجة على موارد البلاد، فساعد ذلك على إنتاج نظام اقتصاد سياسيّ متجذِّر لخدمة مصالح مكوّنات الطبقة السياسيّة. بات واضحاً اليوم استخدام التراكم المفرط للديون لخلق وهم الاستقرار وتعزيز الثقة في النظام الماليّ الكليّ حتى يستمرّ جذب الودائع. وأدّى الكساد، الذي كان متعمّداً خلال السنوات الماضية، إلى إفراغ الدولة من قدراتها على تأمين الخدمات الأساسيّة للمواطنين. ومن بعض النتائج التي توقفت عندها تقارير البنك الدولي هي خروج منهجيّ وحادّ عن سياسة المالية العامة المنظّمة والمنضبطة، الفرص الضائعة لحماية أغلبيّة المودعين في النظام المصرفيّ، وانهيار منظومة الخدمات العامة الأساسية التي كانت ضعيفة أصلاً، ممّا يضع العقد الاجتماعي في دائرة الخطر؛ والأهمّ هو أن كلّ هذا لم يحصل بين ليلة وضحاها، بل على مدى سنوات طويلة في ظلّ صمت قاتل ونفاق مميت. 
 
السؤال الأهمّ اليوم، كيف للأسرة الدوليّة الاستمرار في تمويل وإنقاذ مكوّنات هذه السلطة التي لا توفّر فرصة لتسجيل مكاسب سياسيّة واستثمارها، ولو كانت على حساب الوطن والمواطن. هذه السلطة المسؤولة الأكبر عن الانهيار الاقتصادي، والمسؤولة عن ثالث أكبر انفجار، والمسؤولة عن أكبر جريمة ماليّة ونقديّة دوليّاً، لا تزال تسيطر على الحُكم، وتلعب دور الحكَم في توزيع الخسائر والمسؤوليّات، وهي التي تُحاسب الآخرين عن الجريمة التي ارتكبتها. هذا يعني أن القيّمين في الدولة لا يزالون يحكمون عوضاً من أن يُحاكموا، وهم يُحاسبون عوضاً من أن يُحاسَبوا!

* خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium