د.نادر حسين
لم تَك الجامعة اللبنانية في خطر تراجع دورها كما هي حالها اليوم. فالجامعة الوطنيّة الوحيدة في لبنان، تأسست في العام 1951 بفعل نضالات وعذابات طويلة تعمَّدت بالدَّم. وهي تَضم حاليًا نحو 80 ألف طالبةٍ وطالب، 5 آلاف موظفٍ، وحوالى 5 آلاف أستاذٍ معظمهم من المتعاقدين المحرومين من أدنى مقومات الآمان الوظيفي والمعيشي.
تعاني الجامعة اللبنانية من سياسة إهمال وتهميش مُزمنٍ من قبل أركان النظام الطائفي وقواه التي عملت على تفريخ الجامعات الطائفية ونشرها كالفطر "السام" في المجتمع. ويتوَّج نهج التآمر على الجامعة، في ظل الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية، بحصار إداري ومالي يُعطّل استقلاليتها ويقضي على مكانتها ودورها في توفير التعليم العالي لكل فئاتِ المجتمعِ بعيداً عن منطقِ "الزبون دائماً على حق". ويَتمُّ ممارسة هذا النهج عبر التدخل السياسيّ في شؤونها ومصادرة صلاحيات مجلسها منذ العام 1997. أما بالنسبة إلى الحصار المالي فيتم عبر عدم إقرار موازنةٍ تلائم حاجات الجامعة الضرورية.
ٳنَّ نظرة أركان السلطة الممعنةِ في طائفيتها إلى الجامعة، لا تنطلق من أهمية موقعها في الرسالة التي تحملها ومن أجلها وُجدت، ولا في دورها في بناءِ وتطويرِ المواردِ البشريةِ لخدمةِ السياساتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية، بل هي نظرةٌ لا ترى في الجامعة إلا مكانا "للتنفيع والمحسوبيات" وتقديم الخدمات للمناصرين على حساب الانتاجية والكفاءة بالتوظيف. أضف إلى هذا، ارتهان الكثير من أهلها لأركان السلطة وتلكؤهم في الدفاع عنها، كل هذا أدى الى تخلخل دعائمها وسلوكها طريق التدهور والانحلال.
الجامعة حاليًا خارج الخدمة وهي في خطر التوقف القسريِّ عن أداء رسالتِها ووظيفَتها الإنسانية في خدمة المجتمع حيث استطاعت السلطة أخيرًا في الانتقام من نشأتها باقفالها قسرًا ودفع أهلها إلى هجرتها.
لقد رفدت الجامعةُ اللبنانيةُ سوق العمل في الداخل والخارج على مرِّ السنين بآلاف الخريجين المتميزين ولم تتلكأ يومًا في التصدي للمخاطر التي تهدد اللبنانيين. وما حصل أخيرًا في جائحة كورونا من مسارعة أساتذتها وطلابها لمواجهة الوباء لهو خيرُ دليل على ذلك. حيث استطاعت باستجابتها السريعة عبر تقديم الخدمة الصحيّة والمجتمعية في الحفاظ على الامن الصحي للبنانيين، من جهة، وعلى اثبات قدرتها على تخفيض إنفاقها عبر تأمين عائداتٍ ماليةٍ من جهة أخرى. لكنَّ كلَّ هذا يبقى مرهونًا بفكّ طوق الأسر والحرمان عنها واعطائها الفرص.
وليسَ مُستغرباً أن يتجرأ البعض من أهل السلطة على اعتبار الجامعة مؤسسة خاسرة ويجب اقفالها كما عبّر وزراء في حكومات متعاقبة. فهذه السلطة في الأساس، إلى جانب فشلها الذريع بإدارة الدولة، لا تملك رؤية تنموية لدور الجامعة، لأنها لا ترى فيها سوى مكانًا للزبائنية، ويغيب عن بالها أن الاقتصادات التي سارت باتجاه النمو والتنمية اعتمدت بشكل رئيسي على العلم والمعرفة والاكتشافات العلمية والابتكارات التكنولوجية. فغدا رأس المال المعرفي هو المحدد الجوهري لقوة المجتمعات والاقتصادات في العالم، وبات امتلاك المعرفة والقدرة على توظيفها في مختلف المجالات هو المعيار الرئيسي لقياس تقدم الدول وتطورها.
إنَّ التعليم في معظم دول العالم يقع في إطار المسؤولية الاجتماعية للدولة أولًا وأخيرًا. ولا يمكن اعفاؤها أو التنازل عن هذا المطلب المحق تحت أيِّ شعارٍ أو ضغطٍ بل يجب الاستماتة في المطالبة به والدفاع عنه. وهي التي تتحمل مسؤولية الوفاء بالالتزامات تجاه التعليم ووضع الخطط وتنفيذها.
إنَّ إنقاذ الجامعة والتعليم العام في لبنان هما الركيزة الأساس في إنقاذ البلد من أزمته الاقتصادية لتعويض خسارة الكفاءات التي يشهدها الوطن. هذا إن كانت هناك نيةٌ حقيقيةٌ باستعادة عافيةِ البلدِ والبدءِ بنهوضهِ وإصلاحه.
يدور في بعض الأوساط حديث ظاهرهُ مع الجامعة لكن باطنهُ ضدَّها، ويتجلّى هذا الحديث بأن لا مفرَّ للجامعة لكي تستطيع القيام بدورها من أن تتمتع باستقلاليةٍ ماليةٍ، وهذا أمرٌ بالغُ الخطورةِ ويجبُ التصدي له بحزم. لأنه يتضمّن تخلّياً واضحاً عن الالتزام الاجتماعي للدولة تجاه المجتمع والمواطنين، وتحويل هذا الصرح الوطني الذي يمثل النسيج الاجتماعي في البلد إلى مجرد جامعة خاصة تضاف إلى لائحة الجامعات الخاصة الأُخرى، ويصبح التعليم حكراً على الميسورين فقط.
إن الإصرار على الحفاظ على الجامعة الوطنية بدورها المحوري في التعليم العالي، وأن تكون جزءاً من التزام الدولة ومسؤولياتها تجاه المجتمع، لا يمنع إدارة الجامعة وكلياتها من العمل لتأمين عائدات من خلال مصدرين: الأول ويتمثل في تعزيز البحث العلمي الذي يسهم في تحسين نوعية التعليم، والثاني من خلال فتح أسوار الجامعة على المجتمع بمشاريع غير ربحية، تخدم المجتمع وتوفر مداخيل رمزية تسهم في تخفيف العبء على موازنتها، فتسهم في خفض الإنفاق وتحسين التعليم فيها وتطوير البحث العلمي. لكن كل هذا لن يحصل في ظل استمرار هذه النظرة القاصرة لأركان السلطة إلى الجامعة، التي تتجلّى في الوقت الراهن بثلاثة أمور رئيسية هي: أولاً، مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة، وثانياً، عدم إقرار الموازنة الملائمة لعودة الحياة الطبيعية الى الجامعة وثالثًا السطو على أموال الجامعة من عائدات فحوص الـPCR.
انطلاقاً من ذلك، فإن أولى الخطوات للنهوض بالجامعة والخروج من النفق المظلم الذي أوجدتنا فيه السلطة، لا يكون إلا من خلال:
تنفيذ خطة عمل طارئة وملحّة تعتمد على إقرار مجموعة قوانين تعيد الى الجامعة استقلاليتها وتمنع التدخل السياسي السافر في شؤونها. ويأتي في هذا السياق اقتراح القانون المقدم في المجلس النيابي والذي يرمي إلى إعادة صلاحيات رئيس ومجلس الجامعة اللبنانية كاملة وفقاً للقوانين المنصوص عليها ولا سيّما القانون 75/1967 والقانون رقم 6/1970، حيث إنّ الاستمرار بمصادرة صلاحيات الجامعة “بموجب مرسوم اتخذه مجلس الوزراء تحت رقم 42/1997 والمخالف لقانون الجامعة أدّى إلى تسلّل السياسة واستحكامها بالبنية الأكاديميّة للجامعة (كما ورد في الاقتراح المقدم). فسيطرت المحسوبيات السياسية والطائفية والمناطقية إضافة الى الزبائنية مما أدى إلى تعطيل عمليات التفرّغ والتوظيف وفق المعايير الأكاديميّة وظهور أزمات في بنية الأقسام الأكاديميّة فازدادت الحاجة إلى أساتذة متفرّغين وكفوئين بعيداً عن الانتماء السياسي أو الطائفي التحاصصي.
إن إقرار هذا القانون في المجلس النيابي يشكل المدماك الأول لاستعادة استقلالية الجامعة الادارية، مما سيؤدي حُكمًا ٳلى تفريغ حاجة الجامعة من الأساتذة والموظفين الأكفاء بعيداً عن أي انتماء سياسيّ أو طائفي.
الضغط على أركان السلطة من أجل إقرار الموازنة الملائمة لعودة الجامعة الى التعليم الحضوري والقيام بواجباتها تجاه الأساتذة والموظفين والطلاب.
الضغط من أجل استرجاع مبلغ 52 مليون دولار المسطوّ عليه من قبل شركات الطيران المحلية والأجنبية وأبرزها شركة طيران الشرق الاوسط التي تتمتع على ما يبدو بحصانة معظم أركان السلطة. هذه الأموال ما زالت محتجزة منذ ما يقارب السنة حيث حُرمت الجامعة وأساتذتها من فرصة الصمود والنهوض. هذه الأموال هي حاجة ماسة للجامعة من أجل دعم أهلها وصيانة مبانيها وتجهيز مختبراتها ومراكزها البحثية بالإضافة الى إطلاق سلسلة من المشاريع البحثية الإنتاجية التي ستؤمن عائدات مالية مجزية تُستثمر في نهوض الجامعة ومنها ما أعرب عنه رئيس الجامعة في أكثر من مناسبة عن طريق:
أ- الاستثمار في الطاقة البديلة، سواء الشمسية أو الرياح لغايات التطوير والتحسين بالإضافة الى تقليص فاتورة المحروقات وصيانة المولدات.
ب- تطوير المركز الصحي الجامعي عبر استحداث مجموعة من الوحدات والأقسام المتخصصة وتزويدها بمجموعة من المعدات والتجهيزات (منها التصوير المقطعي بالرنين المغناطيسي MRI، التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET-CT)، مختبر شامل لكل التحاليل الطبية...) يستفيد منه أهل الجامعة ويغطي حاجاتهم الصحية ويكون متاحاً أيضاً أمام المواطنين وبأسعار مدروسة يعود ريعها لتغذية صندوق الجامعة وتغطية نفقاتها وفي عملية تطويرها.
ت- ٳنشاء مصنع لأدوية "الجينيريك"، هذه الأدوية تسهم في خفض فاتورة المواطن الدوائية في ظلِّ الأعباء المعيشية المتفاقمة. وتخفف عليه عناء البحث والتفتيش اللذين أصبحا الشغل الشاغل لآلاف اللبنانيين نتيجة ندرة هذه الأدوية في الصيدليات من جهة أو بسبب إخفائه في أقبية المستودعات من قبل مافيات الدواء والاحتكار من جهة أخرى.
ث- إنشاء مطبعة حديثة للجامعة تخفف عبء فاتورة القرطاسية الجامعية وطباعة المقررات كما تؤمن احتياجات المؤسسات والدوائر الرسمية ويقوم على عاتقها طباعة الكتاب الرسمي الذي يصدر عن المركز الوطني للبحوث والإنماء مما يؤدي الى رفد موازنة الجامعة وتخفيف إنفاق الدولة في هذا المجال.
ج- اقتناع الدولة بكفاءة جامعتها الوطنية واعتماد مراكزها البحثية (في شتّى المجالات والاختصاصات) كمستشار أول للدولة، فتوفر الكثير من الأموال الطائلة التي تدفع بشكل عشوائي لبعض المنتفعين من جهة وتسهم في تعزيز هذه المراكز البحثية من جهة أخرى.
ح- إنشاء مراكز تدريب متخصصة تلبي احتياجات السوق في مجال التنمية البشرية المستدامة وتشكل عامل جذب لأرباب العمل وللمؤسسات على اختلاف مجالاتها وتخصصاتها.
لن تنهض الجامعة الا بإرادة أهلها والتفافهم حول صرحهم الوطني، وابتعادهم عن كل ما يفرقهم. ولن تقوم قائمة للدولة إلا من خلال دعم وتحسين القطاع التعليمي. الحلول واضحةٌ وجليّةٌ لكن النية مفقودة حتى الآن عند أركان السلطة. فبالله عليكم، أما آن الأوان للبدء ببناء الدولة العادلة القائمة على مؤسسات ناجحة؟
لم يعد لدينا ترف إضاعة الوقت وخاصة أنَّ سياسة استجداء المساعدات من الدول القريبة والبعيدة بات واضحًا أنّها مرهونةٌ بقرارٍ سياسي. فليكن هناك حلٌّ لمرةٍ أولى وأخيرة.
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
* أستاذ وباحث في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية