يتابع جيوليانو دا امبولي، مؤلف رواية Le Mage du Kremlin، خط سير صعود بوتين، بقوة إلى السلطة.
يشير في مقدمته أنها مستوحاة من أشخاص حقيقيين، وهبهم حياة خاصة ونسب إليهم أحاديث من نسج خياله.
وإذا خطر لنا سؤاله ألا يخاف من انتقام بوتين الذي سمّاه صراحة في كتابه؟ يجيبنا أن بوتين لا يعير أي اهتمام للصحافة المكتوبة، وأقل من ذلك للكتب.
كان هذا قبل حربه على أوكرانيا!!
والمؤلف ليس روائياً في الأصل، وقد تكون هذه روايته الوحيدة. إنه عالم سياسة إيطالي، عمل مستشاراً لرئيس المجلس الإيطالي Matteo Renzi ومسؤولاً ثقافياً لمدينة فلورانس. وهو الآن أستاذ في كلية العلوم السياسية في باريس. وربما هذا ما سمح له أن يتعمق جيداً في نفسية شخصياته. فعند كل منعطف نشعر بامتلاكه الخبرة السياسية الضرورية لوصف هذا العالم وكيفية تسيير أعماله وسياساته.
لذا لا يُتوقع منه معلومات مثيرة، بل فهم أفضل للذهنيات والمعتقدات الروسية. كما يكتسب هذا الكتاب، الذي أنجز قبل غزو بوتين لأوكرانيا، أهمية مضافة لإلقاء الضوء على السياسة الروسية لمحاولة فهم بعض ما يدور في رأس القيصر الروسي، الذي حاول استعادة خيوط التاريخ بصبر كي يتمكن من جعلها متماسكة: روسيا ألكسندر نيفسكي، وثالث روما للبطاركة، وروسيا بطرس الأكبر، وروسيا ستالين، وروسيا اليوم.
استوحى الكاتب رسم الشخصية الرئيسية، فاديم بارانوف، من شخصية المستشار Vladislav Sourkov، "راسبوتين الكرملين"، سعادة "الظل الرمادي" لبوتين وأحد أقرب مستشاريه الذي ساعده في الوصول إلى السلطة وفي تركيز أوتوقراطيته، أو حكمه الفردي المطلق، قبل أن يختفي، مشكوراً، عن المسرح عام 2021.
فاديم بارانوف هو اختراع الديموقراطية المزيفة. بعد اختفائه، صار الجميع يسأل عن أحدث نشاطاته. هل لا يزال يملك تأثيراً على القيصر؟ ما هو دوره في أوكرانيا؟ ما هي مساهمته في بلورة استراتيجية دعائية نتج عنها تأثيرات مدهشة في التوازن الجيوسياسي للكوكب؟
أطلق المؤلف على فاديم بارانوف الغامض، لقب "ساحر الكرملين". كان مخرجًا ثم منتجاً لبرامج تلفزيون الواقع قبل أن يصبح ظل بوتين - القيصر، ومستشاره السياسي قبل استقالته. لم يستطع أحد فصل الكذب عن الحقيقة. حتى التقاه الراوي ذات ليلة، وعهد إليه بقصته.
تغرقنا هذه القصة في قلب القوة الروسية، حيث كل شيء يجري بشكل جيد، لكن عندما تسوء الأمور، فإنها تسوء بشكل كبير حقاً.
الموسكوفي يتمتع بقوة وراحة برجوازيتين، مستندة دائماً على قاعدة صلبة من القمع. فموسكو، كما يصفها الراوي، أجمل عاصمة إمبريالية كبرى وأشدّها حزناً. ففي هذه الجنة كل شيء مسموح ما عدا الحشرية.
كمن يعيش، بين الحيطان الشفافة كأنها منسوجة من الهواء المتلألئ، على مرأى من الجميع. مغموران دائماً بالضوء. ليس لأحد ما يخفيه عن الآخرين. لا يوجد مقهى يمكن التعليق فيه على الصحف. أما الأخبار فتتغيّر دائماً بحسب المعلّق خافت الصوت.
بلد خرسان، بلد الجميلة النائمة، رائع لكن دون حياة. ينقصه نَفَس الحرية. اليوم كما البارحة. فأنت ولو لم تهتم بالسلطة، السلطة تهتم بك.
مهما كانت هذه الإمبراطورية واسعة، هي ليست سوى سجن كبير، والإمبراطور الذي يملك المفاتيح هو الحارس. لكن الحراس لا يعيشون أحسن كثيراً من السجناء. الروس يملكون من الكياسة أقل بكثير مما يعتقدون أن لديهم منها.
تحفتهم المنجزة كانت في خلق نخبة جديدة تمركز الحد الأقصى من السلطة والحد الأقصى من الثروة.
رجال أقوياء قادرون على الجلوس على أي طاولة دون "عُقَد سياسيي الغرب المهلهلين ورجال أعماله العاجزين"! رجال مكتملون قادرون على استخدام جميع الأدوات التي تهدف لإنتاج التأثير على الواقع: السلطة والمال وحتى العنف؛ عندما يكون ضرورياً.
البلاط هنا هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة والثروة. ففي الحقيقة، النخبة الروسية تشبه كثيراً نبلاء القيصرية. أقل أناقة، أكثر تعليماً، لكن مع نفس الاحتقار الأريستوقراطي للمال، نفس مسافة القطعية مع الشعب، ونفس الميل للغطرسة والعنف.
لا يمكن الهروب من قدر الروس: أن يكونوا محكومين من إيفان الرهيب.
وإذا اعتبرنا أن بوتين بطل رواية، سيلعب أصدقاؤه في بطرسبرغ أدواراً ثانوية تليق بريتشارد الثالث. فقد تحوّلوا خلال سنوات معدودة من متآمري مقاطعات إلى نبلاء الإمبراطورية، جمعوا ثروات تليق بشيوخ الخليج. كل استحقاقهم أنهم وجدوا في طريق القيصر في لحظة أو أخرى. كل ما مطلوب، ممارسة ما شجعهم عليه هو نفسه، مدحه ككل الباقين والبقاء على الصدق الفظ كما في الأيام الخوالي.
في آخر الأمر، تتوحد النخبة الروسية على أساس مشترك من التعاسة التي مرت على كل واحد منهم، وصولاً إلى الفيلات الفاخرة على الكوت دازور، حول قناني الفودكا.
لم تظهر قوة وسلطة بوتين دفعة واحدة. عندما قصف مدينة حلب بوحشية غير مسبوقة عام 2016، كتب مارك غالوتي في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، في مقال بعنوان "بوتين يلعب في حلب بقواعد غروزني"، أن "من يريد معرفة وحشية استراتيجية بوتين يتأمل ما فعله خلال حرب الشيشان الثانية عام 1999، حين كان وزيراً للدفاع"، موضحاً أن "المشاهد المروعة لحرب الشيشان وقصف المدنيين تتجسد الآن بحلب".
يتخيّل دا امبولي ما حدث للقيصر عندما سئل، بعد قصف غروزني: ماذا تعتقد؟ هل سيزيد هذا النوع من الأعمال الأوضاع سوءاً؟
"عند هذه النقطة، حدثت ظاهرة لم أتوصل إلى تفسيرها حتى الآن. بقي بوتين صامتاً لبرهة. وعندما استعاد الكلام لم يغيّر تعبيره، لكن حضوره اتخذ وعياً مختلفاً، كما لو أن جسمه قد غمر في وعاء آزوت سائل. كما لو أن الموظف الزاهد تحول إلى قائد ملائكة الموت!!".
يصف نظرته بالمعدنية. ينبثق منه انطباع صقيعي من القوة الباردة التي اختار بالتأكيد أن لا ينشرها على الملأ. عندما لاحظ كبير الخدم لأول مرة لامبالاة بوتين التامة للطعام، كتم ارتجافة وابتعد. توصل بارانوف، في بدايات القيصر، لملاحظة انعدام حساسية القيصر لكل الملذات التي تجعل الحياة أكثر طراوة. لكنه اعتادها لاحقاً.
اشتكى قبيل الانتخابات في بداياته لبارانوف: ستالين، الأب الصغير، هو اليوم أكثر شعبية مني. لو تواجهنا في الانتخابات لقطعني إرباً.
فسأله: هل تعتقد أن ستالين شعبيّ بالرغم من المجازر؟ أجاب أتظن الأمر غير ذلك؟ أنت مخطئ. إنه شعبيّ بسبب المجازر. لأنه من عرف على الأقل أن يتعامل معهم كسارقين وخونة.
الدرس الذي تعلمه: أن المجازر تعطي مخرجا للغضب والحنق.
زامياتين، الصحافي والروائي الروسي، صاحب كتاب "نحن" الذي يصف دولة بوليسية واستبدادية في المستقبل، فهم أن ستالين ليس سياسياً بل فنان. لقد تنافس زامياتين وستالين خلال 20 عاماً. قوتهما غير متناسبة إطلاقاً، فمواد ستالين هي دم ولحم الرجال، ولوحته هي الأوطان الكبرى، وجمهوره كل سكان الكوكب الذين يهمسون باسمه بتبجيل في مئات اللغات. في عالمه أي نبرة غير متسقة مع مثالات المجتمع الجديد، مهما صغرت، تصبح عدوة الطبقة.
لا مكان في نتاج ستالين الفني سوى للغرائز الحيوانية لرجل واحد فقط. يطبق حرفياً مقولة لينين: من الضروري أن نحلم. لكن الحلم الوحيد المسموح به، هو حلم ستالين؛ يجب حذف كل الأحلام الأخرى. نعيش الآن حلم خليفته: بوتين.
يستنتج بارانوف: لا يمكن لأي كتاب أن يرتقي الى مستوى لعبة السلطة الحقيقية.
السلطة كالشمس، كالموت، لا يمكن النظر إليها مباشرة، خصوصاً في روسيا.