د.أيمن عمر
دورات الحياة السياسية كما في دورات الحياة، تخضع السياسة في لبنان إلى دورات تراوح مدتها ما بين 30 إلى 40 عاماً، تتكرر فيها الأحداث، والنتائج واحدة.
أُنشئ لبنان في العام 1943 في جغرافيته وتنوّعه الحالي بسبب تطورات دولية، انعكست نتائجها على المنطقة عبر تقسيمها إلى كيانات متفرقة مفَتّتة نتاج اتفاقية سايكس - بيكو، فقادت المارونية السياسية دفّة الجمهورية الأولى مع صلاحيات واسعة ومطلقة للمكوّن المسيحي.
شهدت فترة الخمسينيات صراعات أحلاف المنطقة ومحاورها أفرزت ما يعرف بثورة شمعون، ثم شهد لبنان ازدهارًا غير مسبوق استحق فيها لقب سويسرا الشرق، ثم دخل في أتون حرب أهلية فتاكة مدمرة، دقّت المسامير في نعش الجمهورية الأولى لتعلن وفاتها وولادة الجمهورية الثانية في نهاية العام 1989 بما يُعرف باتفاق الطائف بتوافق سعودي - سوري وبرعاية أميركية. ثم انتقلت دفة قيادة هذه الجمهورية الوليدة إلى السنُية السياسية التي ورثت العديد من صلاحيات ومكتسبات المارونية السياسية، وبدأت دورة الحياة السياسية الثانية والتي سارت بنفس مسار الدورة الأولى: إنماء وإعمار وازدهار ورفاهية، صراعات محاور وأحلاف خارجية في الداخل اللبناني، حتى وصلنا إلى انهيار اقتصادي وأزمات اجتماعية أشد فتكًا من الحرب الأهلية. ودخلنا حربًا باردة بقيادة منظومة المحاصصات المذهبية، أبطالها هم أنفسهم أمراء الحرب الأهلية، وهي أشدّ وطأة وتدميرًا لصيغة النظام اللبناني ولعقده الاجتماعي. حواجز القتل على الهوية وخطوط التماس بين المناطق انتقلت إلى حواجز وخطوط تماس مقيتة داخل الوزارات والإدارات العامة والمشاريع التنموية والتشريعات والقوانين بحجة العيش المشترك والتوازن الطائفي والسلم الأهلي.
طبقة عقيمة من الأوليغارشية شكلت شبكات المحسوبيات والفساد، فأحدثت ثقبًا متنوع الألوان بعدد المذاهب في رئة النظام اللبناني فطرحه صريعًا على فراش الموت البطيء. والأخطر من ذلك كله، عند كل استحقاق ومع كل حدث تتنادى أبواق الموت معلنة النفير العام على حافّات أودية الانتحار الجماعي في حفلات الجنون.
وتُساق الجموع سوق المغشيّ عليه من الموت لتذبَح ما تبقى من الجسد المتهالك وإصدار شهادة الوفاة لجمهورية اتفاق الطائف. وما كان يُناقش همساً وتتحدث به النفوس سراً حول صلاحية الصيغة اللبنانية وقابليتها للعيش، تم الصدح بها جهاراً ونهاراً، ويحكى عن مآدب العشاء والمؤتمرات على شرفه، ويكاد يحدث الإجماع الوطني حوله، وهي حقيقة لا مجال للشك فيها بعد الآن. والإشكالية الكبرى هي: هل الفشل باتفاق الطائف ومندرجاته؟ أم هي تحولات طبيعية للصراعات الدولية وارتداداتها على المنطقة وموازين القوى الداخلية؟
اتفاق الطائف في الميزان
صيغ اتفاق الطائف من قبل سياسيين وقانونيين لبنانيين مخضرمين، خبِروا السياسة بكل أغوارها وأسرارها، وهم من نسيج المجتمع اللبناني بكل تنوعاته المذهبية، عاشوا يوميات الحرب الأهلية ومآسيها. لذلك جاء اتفاق الطائف متكاملاً في تأسيسه لجمهورية – الدولة، وليست جمهورية – المذاهب والطوائف. ولكن منظومة المحاصصات المذهبية وشبكات الفساد المنظمة أفرغت هذا الاتفاق من روحه ومحتواه وجعلت منه جثة هامدة. احتوى اتفاق الطائف على حلول عملانية مهمة جدًّا لو طُبقت لربما تفادينا بعضًا من مسببات الانقسامات الداخية، وهي إنشاء مجلس الشيوخ يعكس التمثيل الطائفيّ والمذهبيّ، والأهم هي اللامركزية الإدارية.
تراعي اللامركزيّة الإدارية خصوصيّة كل منطقة وتحقق في الوقت نفسه الاندماج الوطني، وهي من أهم الإجراءات في تحقيق الإنماء المتوازن الذي نادى به الدستور، فيصبح فعلاً واقعاً بدل حبرٍ على ورق. وهي تحقق التمثيل السياسي الصحيح لكل مجموعة بشرية في محيطها ويصبح المال السياسي في الانتخابات نمراً دون أنياب، وهي تعبير ديموقراطي راقٍ يعكس الواقع الشعبي على حقيقته، مع إشراك جميع الطبقات الشعبية في إدارة شؤونهم دون استثناء. إن اللامركزية الإدارية كانت حاجة ملحّة وضرورة وطنية وإنمائية، وهي سفينة نوح للعيش المشترك في ثقافة قابيل وهابيل اللبنانية، ولكنهم دفنوها في مهدها.
إلى أين؟
نجح اتفاق الطائف في لمّ شمل اللبنانيين ووقف أنهار الدماء المسكوبة على مذبح الوطن الملعون، والجميع من دون استثناء أحدثوا طعنًا فيه رويدًا رويدًا وفرّغوا مفاعيله وآثاره. نعم إن اتفاق الطائف إذا طُبق بمندرجاته كافة يصلح لبناء دولة تجمع جميع أبنائها تحت جناحيها في أي زمان وتحت أي ظروف، ولكن هل سيُعاد إحياؤه من جديد؟
عوامل عدة داخلية وخارجية هي المتحكمة في هذا المسار والمصير، وما سينتج عن تسويات في المنطقة حول العراق واليمن وسوريا، ضمنا ستشمل لبنان، وهي الفيصل في تحديد مصير اتفاق الطائف ومسار الجمهورية الثالثة، بالإضافة إلى تغيّر موازين القوى في الداخل اللبناني مع نزف ديموغرافي كبير لمكوّن أساسي في البلد، وفائض قوة لمكوّن آخر، وانهزام وإحباط للمكوّن الثالث. ومهما ُطرحت من نظريات وحلول يبقى اتفاق الطائف سفينة النجاة للكيان اللبناني بتناقضاته المعقدة والنظام الأمثل والأصلح على مر العقود. عندها ستبدأ دورة حياة سياسية جديدة، ستقودها عندئذ الشيعية السياسية.
* مدير مركز إشراق للدراسات