ماذا بقي؟ ماذا سيترك ميشال عون من الشرعية؟ أيّ دولة؟ وأيّ جمهورية؟ وأيُّ رئيس سيتسلّم؟ وفق أيِّ مواصفات، أو تسمية؟ سيادي؟ إنقاذي؟ وطني، يواجه عندما تُفرض المواجهة؟ تحدٍّ؟
ساذج من يعتقد أنّ أحداً من الأطراف يرفض هذه المعايير؛ حتى "حزب الله" لا يعترض عليها، إنّما كما كلّ المفاهيم الأخرى، التي تُحوّر وتُزوّر لمنطقٍ خاص ومصلحة خاصّة، يتمّ استخدامها بخلفيات خبيثة تارة، وبسلوكيات تتناقض وفكرة الوطن اللبناني تارة أخرى. عندها، لا يمانع "حزب الله" إذا كان الرئيس السياديّ والإنقاذيّ والوطنيّ هو مَن يحافظ على المقاومة وإنجازاتها وسلاحها.
وفي خضم الصراع والاختلال في موازين القوى الذي أحدثه صندوق الاقتراع، تعدّدت مواصفات شخصيّة الرئيس. "تحدٍّ"، "مواجهة"، "سياديّ"، "إنقاذيّ"، "وسطيّ"، "وطنيّ"، "آدميّ"، "دستوريّ"... كثيرة هي الإنزالات، كما كثيرة هي الشخصيات التي تحمل هذه الرايات، لكن قلّة قليلة، وقليلة جداً، مَن تملك الجرأة والرجولة لتحمي بها هذه الصّفات.
ليس باعتقادي أن هناك مراهقين في السياسة أو في التجربة أو في الممارسة أو... هناك بالغون يعرفون ماذا يريدون، وكيف يصلون إلى ما يريدون. لذا، ليس باعتقادي أيضاً أنّ كلّ مَن يطرح مصطلح "الرئيس التوافقيّ" هو حقاً يُريد هذا الرئيس، باستثناء دول الغرب. هم اعتادوا على تقديم هذا الطرح كلّما دعت الحاجة، منذ فترة الرئيس إلياس سركيس، الذي رفض عرضاً فرنسياً بالتمديد له ريثما يتمّ التوافق على رئيس، إلى أواخر عهد الرئيس أمين الجميل، مروراً بميشال سليمان وصولاً إلى ميشال عون.
في العام 1988، أرادت القوى العظمى، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، إبعاد كأس الفراغ الرئاسي على مقربة أيام من انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل وغياب حكومة كاملة الصلاحيات، فسعت واشنطن آنذاك، إلى إيجاد مرشّح يحظى بموافقة سوريا والمسيحيين، الذين بحسب الإدارة الأميركية كانوا ممثّلين برئيس الجمهورية وقائد الجيش والقوات اللبنانية، فأطلقت على هذا المرشّح تسمية "الرئيس التوافقي".
طلبت واشنطن من القيادات المسيحية الموجودة في المنطقة الشرقية الاتفاق على أسماء لرفع لائحة إلى حافظ الأسد علّه يختار واحداً من بينهم، فقدّم المسيحيّون 4 أسماء، هم رينه معوض، ميشال إده، بيار حلو وإيمانويل يونس. لكنّهم فوجئوا في ما بعد بالاتفاق الذي حصل بين مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ريتشارد مورفي، الذي كان يتولى المفاوضات مع دمشق، وبين الرئيس الأسد، على مخايل الضاهر، إذ اعتبر مورفي آنذاك أنّه حقق إنجازاً من خلال جعل الأسد يتخلّى عن التمسّك بسليمان فرنجية.
لسنا في صدد قراءة تفاصيل تلك المرحلة، والتحدّث عن حنكة حافظ الأسد، وأسلوب "الثعلبة" الذي كان يتميّز به لتحقيق ما يريد، مع قدرة هائلة على إرهاق غريمه المفاوض، وإدراك موازين القوى التي كان يستغلّها بإتقان ودهاء. الأهمّ النتيجة، وهو ما عُرف وقتها باتفاق مورفي – الأسد، وما اشتُهر بتسميته بعبارة "مخايل الضاهر أو الفوضى"، فغادر مورفي، ولاحقاً كانت الفوضى.
مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط الأسبق ريتشارد مورفي
وبعيداً عن صوابية الخيار من عدمه الذي قام به المسيحيّون، فقد يكون محقاً الاعتبار أنّ من الأسباب التي فجّرت الفوضى لاحقاً في المنطقة الشرقية هو عدم الإدراك الفعليّ لميزان القوى الداخليّ مربوطاً بالإقليمي والدولي.
إدراك واتقان استخدام موازين القوى، أكانت سياسيّة أم غير سياسيّة، جعل "حزب الله" يربح كثيراً، والفريق المناوئ يخسر كثيراً. هو خَطف التوازن الداخلي، وتحوّل إلى لاعبٍ كبير يحدّد مسار واتجاهات اللعبة السياسية. وفي السياق، هل إصرار الأميركيين في العام 1988 على أن يكون ترتيب البيت الداخلي اللبناني، وتحديد "الرئيس التوافقي" بين فريقين أساسيين متنازعين، أي بين "القوات اللبنانية" وقيادات المنطقة الشرقية، وسوريا، كان من فراغ أم نتيجة موازين قوى كانت تفرضها تلك المرحلة، سرعان ما أشعلت الفوضى مع تبدّلها؟ وكان من نتائجها الكارثيّة تسليم المسيحيين السلاح، والانقضاض على اتفاق الطائف، فأرسى التوازن العسكري والسياسي الجديد الذي فرضته سوريا سياسة "الغالب والمغلوب". أما "الحزب"، فكان يحدّد مواقفه بحسب مقتضيات المرحلة. تارة كان طاغياً وآمراً ناهياً حاسماً، وتارة أخرى ينقلب إلى "توفيقي". هو يتقن جيّداً فنّ موازين القوى، ويسهر على ضبطها وصيانتها على الجبهات كافة.
التوازنات التي أرساها أتت بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً توافقياً، وبقائد الجيش الأسبق ميشال عون رئيساً توافقياً ليتحوّل إلى رئيس يخدم مشروع إيران و"حزب الله" في لبنان. والتوازنات اليوم لم تسحب من "الحزب" تحكّمه بالمعادلة، بل هو يستمرّ في تعطيل نصاب جلسات انتخاب الرئيس، تحت شعار الحوار بين اللبنانيين وعدم حصرهم بين طرح إمّا الرئيس التحدّي أو الفراغ.
لا يخفى أنّ وصول رئيس من خارج بيئة الحزب يعني فقدانه وإيران موقعاً مهمّاً ومتقدّماً في لبنان، وهو أمر من الصّعب تقبّله، فيما إدخال البلد في نفق الوقت الضائع رهانٌ على أحداث وتطورات قد تبدّل أو تعدّل في وقت معيّن خريطة المرحلة، فيأتي برئيس ينتمي كلياً إلى محور الممانعة، أو بالحدّ الأدنى رئيس لا يستفزّ "حزب الله" في الداخل، ولا يعرقل مشروع إيران في الداخل والخارج.
من هنا، لابدّ أن يعي المعنيّون أهمية فرملة التفوّق الضخم الذي حققه الحزب بعد العام 2016 ومحاولته كسب آخر مركز "شرعي" في داخل الدولة اللبنانية. لا أُطلق تحريضاً على الحزب، ولا أقول جديداً إنّ قلت إن تشتّت قوى المعارضة يسحب منها قوة المبادرة وتكوين التوازن الصلب، وهي ركائز مهمّة وأساس في أيّ عملية تفاوضية، أكان الخصم اسمه "حزب الله" أم أيّ شيء آخر. على سبيل المثال لا الحصر، أَنْ تُفاوض المعارضة، وهي تمتلك 67 نائباً، فالنتيجة ستكون مغايرة تماماً للحالة التي تفاوض فيها، وليس لها أكثر من 44 صوتاً. أن يعي الجميع أهمية انتخاب رئيس من دون ترجمة فعليّة لهذا الإدراك في البرلمان أمر خطير؛ فالظرف اليوم ليس مناسباً لعرض قوى، وبـ"المفرّق"، لأنّ ما هو مستور ومخبّأ قد يؤدّي إلى سقوط الجمهورية والكيان بـ"الجملة" مش بـ"المفرّق"؛ وما عناوين مثل الـ86 صوتاً لانتخاب رئيس، والحوار، وربط النزاع الذي لم يُطرح علناً حتى الساعة، (كلّها) ما هي إلا خدمة غير مباشرة أو مباشرة لنهج التعطيل ولـ"حزب الله". ويسري عليها القول: "ما متت ما شفت مين مات".
في العام 1988، جاء ديفيد نيوتين مساعد مورفي ليقول للمسيحيين: "نعرف أنّ ما نعرضه عليكم صعب، لكن ننصحكم بالقبول. إمّا مخايل الضاهر وإمّا الفوضى". واليوم، على غرار الأمس، إمّا الاتفاق بين المعارضة وإمّا الخيبات، وقد تكون الفوضى".